شهادة ميلاد من "البلاد"
بسام أبو الرب
يقلب المواطن عثمان سويدان (78 عاما) من مدينة نابلس، ورقة صفراء مهترئة، وضع عليها اكثر من شريط لاصق، لتبقى اجزاؤها متماسكة، فهو يعتبرها كنز ثمين لا يمكن التخلي عنه ويجب الحفاظ عليه.
الورقة الصفراء شهادة ميلاد المواطن سويدان والتي كتب عليها بثلاث لغات العربية، والانجليزية، والعبرية، مكان الولادة قرية سلمة قضاء يافا، وتاريخ الميلاد شهر ايلول عام 1940، والتي روست بحكومة فلسطين، فيما جرى وضع طابع اخضر اللون وكتب عليه ايضا بثلاثة لغات بسعر 10 ميلات.
ويطلق الفلسطينيون على الاراضي التي هجروا منها اسم "البلاد"، باعتبارها ارضهم وبلدهم.
واكدت الشهادة التي وجدها صدفة بين الملابس التي حملتها العائلة معها اثناء خروجها، أن جنسية الأب والأم فلسطينية، والعنوان الدائم لهما قرية سلمة.
ثمانية اعوام كان عمر سويدان عندما هجر الاحتلال عائلته من مسقط راسه سلمة، على أمل الرجوع اليها خلال ايام حسب وعود الحكومة البريطانية في ذلك الوقت.
يقول: "حملنا ملابسنا وما نستطيع معنا وركبنا في مركبات صادفتنا في الطريق الى مدينة الرملة التي مكثنا فيها حوالي عشرة ايام، ثم توجهنا بعدها الى مدينة نابلس مؤقتا على امل الرجوع الى سلمة".
يتابع سويدان: الوقت المؤقت أصبح 70 عاما في انتظار العودة الى بيوتنا التي هجرنا منها، واصبحت ملكا للإسرائيليين فيما بعد، كنا نسمع الكثير من القصص اثناء طريق رحلتنا الى الرملة ونابلس، عن القتل والدمار، عن مرضعات نسيين اولادهن، عن من ضلوا الطريق وتاهوا عن عائلاتهم".
سويدان ذاكرته لم تحتفظ بالكثير من مسيرة التهجير، انما يذكر حوش منزله في سلمة وعدد الغرف وتفاصيل حجارته، وبيارة الموز التي كانت تملكها العائلة، والاعمال التي كان يقوم بها لمساعدة والده في تربية عدد من الابقار وزراعة القمح والذرة.
بعد سنوات عدة زار والد سويدان حسب ما رواه لأبنائه، منزله الذي هجر منه في قرية سلمة، فوجد فيه عائلة اسرائيلية، بعد أن استولت عليه، وطلبت منه الرحيل فور وصوله، لأنه اصبح ملكها، ولا يوجد حق له فيه.
ويؤكد سويدان أن المأساة التي وقعت بالشعب الفلسطيني كبيرة جدا، ولكن قسوة الظروف التي عاشوا فيها بعد التهجير والنكبة كانت اكبر، فبعد أن حطت رحال العائلة في قرية رفيديا غربي نابلس آنذاك، جرى نصب عدد من الخيم في احدى حقول الزيتون، التي لم تصمد كثيرا بعد شتاء قارص، وثلوج وصلت الى 70 سم في العام 1949، هدمت خلالها الخيام على رؤوس ساكنيها".
ويقول: "أهالي المنطقة هبوا لنجدة اللاجئين واذكر منهم ابو عماد الدواني، والحاج عبد الله حسونه، بعد أن اصبحوا بلا مأوى نتيجة الظروف الجوية الصعبة وسقوط الثلوج بكثافة".
لم يزر سويدان مسقط رأسه قرية سلمة المحتلة عام 1948، بل بقي يسمع عنها وما حل بها بعد استيلاء الإسرائيليين على ما فيها، لكن تبقى امنياته بزيارتها ورؤية بيته الذي هجر منه.
وعن احتفاظه بشهاد الميلاد حتى اليوم، يقول: "هذه الأصل والأساس، وباقي الارواق تعتبر اعارة، فهذه تدل على مسقط رأسي، وتذكرني بطفولتي والمكان الذي امضيت سنوات فيه رغم قلتها واحن اليه دائما".
اليوم بعد 70 عاما على التهجير يجلس المواطن سويدان في دكانه الصغير بحي رفيديا، والتي تبعد ما يقارب 200 مترا عن المكان الذي نصبت فيه خيام العائلة لحظة وصولها الى مدينة نابلس، ويتذكر كيف كانت الأراضي تعج باللاجئين، الذين فرقتهم اسرائيل فمنم من هاجر الى مدن فلسطينية اخرى وعاش قصص اللجوء والشتات في القرى والمخيمات، ومنهم هاجر الى خارج البلاد ولم يبق منها سوى الذكريات والمفتاح.