حيفا لم تبقَ كما كانت
هدى حبايب
لم تكن حيفا مطلقا قبل 70 عاما بالشكل الذي عليه اليوم، فكثير من معالم الحياة التي اختص بها الفلسطينيون "أصحاب الأرض"، طمسها الاحتلال الإسرائيلي، بعد عام 1948، أي عام "النكبة".
والنكبة هو الاسم الذي أطلقه الفلسطينيون على ما حل بهم من تهجير قسري جراء احتلال اليهود لمدنهم وقراهم عام 1948، وتدمير أجزاء كبيرة منها، وارتكابه للمجازر بحق أصحاب الأرض.
وعملت إسرائيل بعد استيلائها على مدينة حيفا، وبشكل ممنهج، على طمس معالم المدينة العربية، بعد هدمها للبنايات القديمة وإحلال مكانها الأبراج الضخمة، وتدمير قراها، وإقامة المستعمرات فوقها، وتبديلها لأسماء الشوارع العربية بمسميات عبرية، وبالتالي استيلائها على كل شيء.
قبل "النكبة"، كان لمدينة حيفا استثناء مختلف عن باقي المدن الفلسطينية خاصة الساحلية، بشهادة من هم على قيد الحياة، مواكبة للرقي، والتقدم الاقتصادي، جذبت إليها مستثمرين، وعمالا من الدول العربية كالأردن، ومصر، وسوريا، والعراق، عدا عن الجاليات الأجنبية.
احتلت المدينة قبل النكبة المرتبة الثالثة بين المدن الفلسطينية بعد القدس، ويافا، من حيث عدد السكان، اذ بلغ عدد سكانها حسب إحصائيات عام 1945م 138,300 نسمة.
مستحضرا لذكريات طفولته في قريته صبارين إحدى القرى المهجرة التابعة لـ حيفا، وتبعد عنها ما يقارب 30 كم، يقول اللاجئ مصطفى محمود عبد الفتاح أبو عواد: "حيفا كانت الحياة والمصدر لكل قرى شمال فلسطين".
ويقطن أبو عواد (81 عاما)، في مخيم نور شمس شرق مدينة طولكرم في الضفة الغربية، وهو أحد مخيمات اللاجئين الفلسطينيين أسسته وكالة الغوث الدولية عام 1951 بعد مرور ثلاث سنوات على النكبة.، ويضم لاجئين من 27 قرية تابعة لحيفا.
ويضيف: "قبل عام 1948، كانت حيفا مزارا اقتصاديا كبيرا، يأتي إليها مواطنون ومستثمرون من سوريا والأردن ومصر، كونها تحتضن أكبر الموانئ البحرية، الذي يستقبل السفن والبواخر القادمة من جزيرتي رودس، وقبرص".
ويقول أبو عواد: " كان فيها مقر المندوب السامي، ومقر القائم مقام، والمحاكم العسكرية، ومقرات التجارة".
ويشير أن سكان نابلس خاصة التجار، كانوا أكثر الزائرين لمدينة حيفا، يشترون منها بضائعهم ويعودون بها إلى مدينتهم.
ميناء حيفا على شاطئ البحر الأبيض المتوسط يعتبر بوابة فلسطين البحرية إلى العالم، وهو أحد المرافق الرئيسية التي أنعشت هذه المدينة الساحلية اقتصاديا وعمرانيا، إلى جانب المنطقة الصناعية التي تضم معامل تكرير البترول، والصناعات الثقيلة، إضافة إلى سكة حديد قطار الحجاز التي أقيمت بقرار من الدولة العثمانية عام 1900، وربطتها مع مدن بلاد الشام والحجاز ومصر، في الوقت الذي احتضنت مئات العمال متعددي الجنسيات الذين عملوا وسكنوا بها مع عائلاتهم.
وحسب ما ذكره بعض المؤرخين الفلسطينيين، وما وثقته الصور القديمة للمدينة الساحلية، فإن النشاط الاقتصادي في حيفا وحركة التنقل البشري بين مناطق بلاد الشام ، أدى إلى اتساع أحيائها من الناحية العمرانية، وازدهارها من الناحية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وبدأت تتشكل مدينة متعددة الأجناس والألوان من العربية والأجنبية، وفي نفس الوقت حافظت على طابعها العربي الذي كان سائدا بقوة.
ويقول أبو عواد: "سكن في حيفا قبل النكبة المسلمون والمسيحيون واليهود، الكل كان متساويا، وكان حي النسناس من أبرز الأحياء العربية التي ما زالت قائمة حتى الآن، إضافة إلى جامع الحاج عبد الله، وهناك ساحة الحناطير، وشارع الملوك، وجميعها ما زالت موجودة بأسمائها العربية، رغم محاولات الاحتلال تغيير مسمياتها".
ويضيف: "كانت الحياة في حيفا هادئة رغم ضجيج العمل، كان والدي يصطحبني وكنت حينها في عمر الثانية عشرة مع أشقائي، إليها للتسوق، نتجول في شوارعها وأسواقها، كنا مبهورين بحجم التطور في هذا المدينة، ونحاول جاهدين بإقناع والدي أن نبقى مدة أطول فيها قبل العودة إلى القرية".
ويستذكر مواطنون من طولكرم خلال حديثهم مع مراسلة "وفا" الأجواء في مدينتي حيفا، ويافا، بقولهم: قبل النكبة كانتا عامرتان بالثقافة والفن وتحتضنان المسارح الفنية، وتقام عليها الحفلات الغنائية لأشهر المطربين المصريين في حينه أمثال أم كلثوم وأسمهان وفريد الأطرش، ودور السينما التي كانت تعرض أفلام ليلى مراد ونجيب الريحاني ومحمد عبد الوهاب وغيرهم، عدا عن استضافتهما للقاءات الثقافية والشعرية، وكان الناس يفدون إلى الصالات من مختلف قرى ومدن فلسطين لمشاهدة العروض.
"حيفا لم تبقَ كما كانت"، يقول أبو عواد، كان هناك تشويشات من قبل العصابات الصهيونية الثلاث، الأرجون وشتيرن والهاغانا بدعم وتسليح من الانجليز، الذين خرجوا من فلسطين بنهاية 1947 وبداية 1948، وبالتالي فتح الباب لدخول اليهود بشكل علني إلى "البلاد"، وبدأوا غاراتهم على المدن الرئيسية وفي مقدمتها حيفا التي سقطت يوم 22-4 – 1948، وكان ذلك مقدمة لاحتلال كل فلسطين.
ويؤكد أنه من الصعب نسيان حيفا أو حتى إعطائها حقها في الوصف، ويقول عنها: "حيفا أم فلسطين وعروس فلسطين ورأس القضاء، ما في بعد حيفا، حيفا مناخ وجو وسكن، وصوت الموج يضرب بالأرض، ناحيتها الجنوبية الكرمل، وهو أعلى منطقة، لها كل الاحترام والتقدير والمحبة، نفنى من أجل حيفا".