"حَلَوَنجيّة" السجون
رشا حرزالله
جلس باسم على برشه "سريره" متأهبا، وهو يرقب بحذر زملاءه في سجن مجدو، الذين راحوا يتذوقون حلوى "ليالي لبنان" التي أعدها بما توفر لديه من مواد، حيث كانت تلك المرة الأولى التي يعد فيها الحلوى.
هنا كان باسم اشتيوي أمام خيارين، إما المديح والثناء على ما صنع، وإما أن ينهال عليه الأسرى بالتعليقات الساخرة وتعالي الضحكات إن لم يكن مذاقها جيدا على أقل تقدير، لتصبح بعدها سيرته حديث القسم كله، تماما كما حدث يوما ما مع أحد الأسرى حين غفل عن صينية الهريسة التي أعدها إلى أن احترقت ويبست، فصار الجميع ينعتونه بـ"صانع صينية الباطون الفاشل" من باب الفكاهة والمزاح.
أعد باسم "ليالي لبنان" بقليل من الحليب والنشأ، مضاف إليها فتات الخبز المجفف واليابس عوضا عن السميد غير المتوفر في كثير من الأوقات في "كنتينا" السجن، وطبقة من عصير التوت، يجري غليها على غاز الطبخ "وهو عبارة عن بلاطة كهربائية صغيرة، وهو ما تسمح إدارة السجون للأسرى باقتنائه.
سكب باسم الذي تحرر من الأسر عام 2016 عقب سجن دام عشر سنوات، ليالي لبنان في وعاء ووضعها في الثلاجة حتى تبرد، في هذه الأثناء كان الأسرى يتناوبون على فتح بابها بين الفينة والأخرى، منتظرين بشوق أن تصبح الحلوى جاهزة للأكل، وبعد ساعات تناولوها فكان له نصيب من الإعجاب والثناء.
كان السجن بمثابة حياة جديدة على باسم اشتيوي (38 عاما)، الذي اعتقل من قريته كفر قدوم الواقعة شرق مدينة قلقيلية عام 2006، فعزم على تأسيس حياة أخرى منفصلة عن العالم الخارجي، وكل يوم كان يعيشه خلف قضبان الاحتلال جعله يدرك حجم قساوة العيش، وضرورة الرضى بالقليل بحجم ما هو متوفر.
واستغرق ذلك شهورا عدة، خاصة أنه اعتاد سابقا أن تعد له عائلته ما لذ وطاب من الأطعمة والحلويات المصنوعة بدقة، لكن أصبح الآن لزاما عليه أن يقبل بما موجود (المهلبية المصنوعة بالكولا، أو الكنافة النابلسية المكونة من الخبز المجفف والجبنة الصفراء).
لإعداد حلوى الكنافة يأتي الأسرى بالخبز المجفف، ثم يقومون ببشره عبر مبشرة بلاستيكية حتى يصبح ناعما ثم يضعونه في وعاء على النار، لتحميصه بغية أن يعطي لونا مائلا إلى البرتقالي، مع وضع قليل من الكركم المستخدم في صبغ للأرز، ثم يعودون لتحميصه مرة أخرى، وتوضع بعدها الجبنة الصفراء، ويرش فوقها الخبز الذي أعدوه سابقا.
والمرحلة التالية هي شيّ الصينية، حيث يضطرون لقلب البلاطة الكهربائية بشكل معاكس، وتعليقها على عصا مكنسة التنظيف، حتى يتمكنوا من شيّها من الأعلى، ورش السكر المغلي "القطر" عليها.
وتعتبر الكنافة أكثر الحلويات التي تجمع الأسرى، ولها طقوسها الخاصة، ويقول اشتيوي: "إن جميع أفراد الغرفة يعملون مثل خلية النحل، الكل يريد المساعدة بشيء، أحيانا كنا نخفق فيها إما لنقص المقادير، وإما لطريقة الإعداد، لكن بالمجمل كان الأسرى يأكلونها كما لو أنها كنافة نابلسية كاملة المقادير".
ويرافق تناول الكنافة أحيانا تعليقات ساخرة، كأن يقرنها الأسرى باسم أشهر محال الكنافة في نابلس، لكن في حدود ما هو متوفر لهم؛ ويقول اشتيوي: "كنا نأكلها ونضحك".
كما تحظى حلوى العوامة بأهمية كبيرة لدى الأسرى، والتي يعتمدون فيها على الخبز المجفف واليابس، مضاف إليه قليلا من الحليب والنشأ، يجري خلط المكونات مع بعضها، ومن ثم إضافة كمية من البطاطا المسلوقة، وعندما سألنا اشتيوي عن سبب هذه الإضافة ضحك وأجاب: "حتى تصبح قاسية وعند القلي "تقرمش" كالعوامة الموجودة في محال الحلويات".
وفي فصل الصيف، يكثر الأسرى إعداد البوظة، فهي محببة لهم جميعا، وكانوا يوكلون مهمة تحضيرها لأحد الأسرى لبراعته فيها.
مقادير البوظة بحسب اشتيوي هي كميات من اللبن، مضاف إليه مبيض القهوة، وكمية من السكر، يتم خلطها في وعاء، ثم يحضر الأسرى كرتونة ويصفون داخلها قطع بسكويت يغمرونها باللبن، وطبقة أخرى من البسكويت، ثم توضع في الثلاجة لساعات حتى تتجمد.
بعد الإفراج عنه من سجون الاحتلال، عمل اشتيوي على إعداد مختلف الأطعمة والحلويات التي تعلمها داخل السجن لعائلته، وبالمكونات ذاتها، ويوم أعد لهم البوظة جاملوه وأخبروه أن مذاقها جيد، لكنه كان يعلم في قرارة نفسه أنهم لم يتقبلوها، ويصف رأيهم بالبوظة "أرادو مجاملتي فهي لا تشبه تلك الموجودة بالخارج، ويحتاج المرء وقتا حتى يعتاد مذاقها، لكن في السجن كنا نراها شيئا عظيما".
كما يعد الكوكتيل من المشروبات المفضلة أيضا لدى الأسرى، وإعداد خمسة أكواب مثلا يحتاج إلى شهر من التحضير، لأن الأسرى كانوا مضطرين إلى تجميع الموز الذي تسمح إدارة مصلحة السجون بإدخاله بين الفينة والأخرى، يخبئونه ثم يقومون ببشره على المبشرة لحين يصبح ناعما، ويضيفون إليه الحليب، وأنواع أخرى من الفواكه إن توفرت مثل حبة تفاح أو توت أرضي.
وفي فترات كثيرة، كانت إدارة مصلحة سجون الاحتلال تفرض عقوبات على الأسرى، وتحرمهم ليس فقط من إدخال مكونات الحلويات، بل من إدخال أنواع مختلفة من المأكولات، وكانت غرفهم وثلاجاتهم أشبه بحالة "القحط" كما وصفها اشتيوي، خاصة في سجن مجدو، الذي لم تكن تتوفر فيه كل ما يحتاجه الأسرى.
ويقول "كانت أروقة السجن تتحول لاحتفال حقيقي كلما أعاد الاحتلال السماح لنا بإدخال المواد الخاصة بالحلويات".
ويضيف اشتيوي "في المناسبات الدينية والوطنية أو الاجتماعية يتم جمع مبلغ معين من كل أسير لشراء ما يلزم لإعداد الحلويات، فهي مكلفة لأن إدارة مصلحة سجون الاحتلال تبيعنا إياهم بسعر مرتفع، بحيث تجعل من الصعب على أسير واحد أن يتكفل بشرائها".
لكن ذلك لا ينطبق على المناسبات الشخصية للأسرى، ويقول المحرر اشتيوي إن الحلويات التي يتم إعدادها داخل الغرف تكون كلفتها أقل، نظرا لأن عدد الأسرى داخل كل غرفة لا يتجاوز الثمانية، فأحيانا كنا نحتفل بعيد ميلاد أحدنا، أو أن ترزق عائلة آخر بمولود، هنا يتكفل صاحب المناسبة بتكاليف الاحتفال والحلوى.
وأجمل المناسبات التي احتفل بها باسم داخل السجن كانت عندما عقد زميل له شاركه الغرفة ذاتها لسنوات، قرانه على فتاة من أقربائه، "كان محكوما بالسجن 13 عاما، وبقي على تحريره أشهر قليلة، أعددنا أصنافا مختلفة من الحلويات تكفي لـ120 أسيرا، واجتمعنا على الدبكة والغناء، وهو أصر أن يتكفل وحده بالتكاليف".
ويشير إلى أن إدارة سجن مجدو "كانت تلزمنا بأوقات محددة للاحتفال، غالبا كنا ننظمها بعد صلاة العصر".
في شهر رمضان يشتهي الأسرى الحلويات بشكل أكبر، فلا يكاد يمر يوم دون أن تتزين موائدهم بصنفين منها على الأقل، غالبا تتركز على الكنافة والعوامة والشعيرية التي يتم تحميصها، وغمرها بالسكر، هذه كي يحافظ الأسرى على نسبة السكر في أجسادهم أيضا.
وفي موسم الأعياد، لا يوجد صنف من تلك الحلويات إلا ويعده الأسرى، إضافة إلى أنهم يشترون من "الكنتينا" الشوكولاتة بمختلف أنواعها وأشكالها إضافة إلى العصائر، بحيث توضع على طاولة تتوسط القسم، في حين يعد المعمول طبقا أساسيا في القسم وداخل الغرف.
ويبدأ الأسرى قبل العيد بخمسة أيام على الأقل بالتحضير لإعداد المعمول، يخلطون السميد بالحليب مضاف إليه شرائح من الزبدة، ويترك قليلا حتى يصبح جاهزا للتقطيع، ومن ثم يقومون بعجن التمر حتى يصبح مشابها للعجوة.
ويقطع الأسرى المعمول قطعا صغيرة، باستخدام أغطية علب البهارات، وينقشون على حباته بملعقة خشبية يرسمون أشكالا مختلفة، ثم يقومون بشيّه على البلاطة الكهربائية الصغيرة، في عملية تستغرق لساعات وربما أيام، فأحيانا يتجاوز عدد حبات المعمول 3 آلاف حبة تكفي كل القسم، ثم يجري طحن السكر ورشه فوقه.
وأثناء وجود اشتيوي داخل السجن، اعتقل الاحتلال "شيفا" من مدينة نابلس، كان يعمل في محل "بروست" دجاج، كان الأسرى يستغلون وجوده بينهم ليعد لهم "البروست" مع ما توفر لهم من مقادير.
ويقول المحرر باسم اشتيوي "نحن نستغل أي شيء داخل السجن لكسر روتين الطعام والشراب وطبيعة الحياة".