المشمش الذي ضحك يوما للفلسطينيين
جميل ضبابات
يذكر التاريخ سبسطية كواحدة من عواصم العالم القديم.. اجتاحها الآشوريون، والعبرانيون، والاسكندر المقدوني، والجراد في العام 1915.
لكن البلدة التي تقع فوق ربوة خضراء شمال غرب نابلس في الضفة الغربية، تحفظ البقية القليلة من أشجار ذلك التاريخ التي ورد ذكرها في الكتاب المقدس خلاله.
عندما انتهت بعثة التحقيق الأمريكية- البريطانية التي كانت مهمتها دراسة الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية في فلسطين من تقريرها عام 1946 كان من نتائجها، أن هناك 22 ألف دونم مزروعة بالمشمش والخوخ في فلسطين التاريخية.
في تلك الأيام كان خالد مخيمر يبلغ من العمر خمس سنوات، لكنه اليوم، ما زال يحتفظ ببقايا صور لشجر المشمش في البلدة التي تحفل بغطاء اخضر دائم.
في شبابه غادر مخيمر الى ألمانيا، وقضى 42 عاما في مدينة شتوتغارت، عمل خلالها في مهن كثير، لكن أي منها لم تكن في حقل مشمش.
وعندما عاد الى البلدة التي تبعد 12 كيلومتر عن مركز مدينة نابلس، أراد إحياء الذاكرة القديمة. وزرع المشمش.
لكن سبسطية التي تتخللها الطرق التي تحيط بها الأعمدة الرومانية، وبقايا القصور التي سكنها حكام التاريخ السحيق، لم تعد البلدة التي تنتج المشمش مثلما كانت قبل عقود.
واقفا قبالة بستان المشمش خاصته قال مخيمر " كانت أسراب المشمش التي توازي أسراب الزيتون كثيرة. الآن لا شيء. فقط القليل".
في أيار، يستقبل الفلسطينيون موسم الصيف بالنزول إلى بساتين المشمش التي مركزها عدة قرى قريبة من سبسطية واخرى تحيط برام الله. إلا أن البلدة التي تتدلى من منازلها أغصان شجرات العنب والرمان على الأرض، لا تنشغل هذه الأيام بالمشمش إلا في نطاق محدود.
ولم يتبق أكثر من 600 دونم مزروعة بهذا الصنف من الأشجار، 400 منها في سبسطية و3 قرى محيطة بها، حسب أرقام أدلى بها محمد عاشور وهو مهندس زراعي في زراعه نابلس.
لكن مخيمر الذي عاد من ألمانيا قبل 16 عاما مدفوعا برغبته القوية لزراعة المشمش وأصناف أخرى من اللوزيات يقول "لدي الآن 130 شجرة مشمش". ولديه أيضا مئات الأشجار الأخرى من أصناف أخرى.
من على بعد، يظهر بستان الرجل الذي ظهر بمظهر رجل من الريف الأوروبي لابسا السروال القصير والبرنيطة، يأخذ الألباب.
ويسمى المشمش الذي يزرع في سبسطية بالبلدي. وغالبا ما يورد الإنتاج الى السوق المحلي، لكن كريم محيبش وهو شاب كان يجني الثمار من بستان عائلته، قال "أحيانا يأتون من حيفا الى هنا لشراء مشمش سبسطية".
مخيمر ذاته الذي بدأ القطاف صبيحة اليوم الأربعاء، قال إنه ورّد عدة كيلوغرامات إلى أسواق المدينة، ويقصد نابلس.
ويشكو مالكو البساتين من انخفاض الإنتاج هذا العام.
وقال المهندس عاشور "كان إنتاج الدونم الواحد العام الماضي 150 كيلوغراما (...) هذا العام سينخفض إلى 80 كيلوغراما".
متسلقا على سلّم خشبي للوصول إلى أغصان عالية في شجرة مشمش تجاوز عمرها العقدين، قال محيبش الذي كان يقطف الحبات بحذر شديد "هذا العام عدد الحبات أقل".
وتدلت حبات متفرقة من المشمش كانت تلمع مع أشعة شمس اليوم. وسمي المشمش في تفسيرات متفرقة بــ "تفاح الذهب".
ويقل حجم الحبة كثيرا عن حجم اصغر أنواع التفاح، لكنه المشمش الأصفر يلمع فعلا مثل الذهب.
تتوزع بساتين المشمش القليلة في جهات متفرقة من سبسطية، وهناك غطاء كثيف من حقول الزيتون التي تطغى على مشهد البلدة.
وبين حقول الزيتون زرعت أصناف مختلفة من اللوزيات والرمان.
وقال مخيمر "زرعت أصنافا عديدة من الأشجار والفاكهة.(...) الآن أنا في موسم المشمش". وعلى نقيض مواسم طويلة أخرى مثل موسمي الزيتون والتين في فلسطين، يقتصر موسم المشمش على أيام معدودة، وهو ما يطلق عليه" جمعة مشمشية" في إشارة إلى محدودية الزمن.
وغالبا عند فقدان الثقة في شيء غالبا ما يقول الفلسطينيون "في المشمش". وتشير اللازمة إلى استحالة حدوث الشيء.
هكذا، لم تخل سيرة المشمش في فلسطين من البؤس التاريخي. في حين أفاد تقرير لجنة التحقيق الدولية إلى 22 ألف دونم من المشمش والخوخ في عام 1945، أشار تقرير طلبه مراسل (وفا) من وزارة الزراعة الفلسطينية إلى نحو 3.564 دونما من المشمش في العام 2017.
وقدر تقرير رسمي كمية الانتاج من المشمش في الأرض الفلسطينية الموسم الماضي بـ 680 طنا.
لم يكن الانحسار التاريخي لهذه الزراعة فقط لأسباب سياسية كبرى مثل ضياع الجزء الأكبر من فلسطين بعد سنتين من إصدار التقرير التحقيقي الشهير. فهجوما طاغيا للجراد عام 1915 أصاب بساتين المشمش بالخراب كما تظهر وثائق سابقة. وتظهر صورا نشرتها "الاميركان كولني" في ذلك الوقت لبساتين المشمش في الضفة الغربية وقد تعرت تماما من الورق والثمار.
الثمار التي يتحسسها اليوم مخيمر برفق ويقول "عندما اقطفها في الصباح تضحك في يدي" في إشارة منه إلى نضجها واستدارتها الكاملة.