يوم هرب الجندي "أمير" من الطفل "محمد"
يامن نوباني
في مشهد كبير من أيام انتفاضة الحجارة (1987-1994)، يلاحق جندي من الاحتلال، طفلا صغيرا يحمل الحجارة في أزقة مخيم جباليا شمال شرق غزة، ثم يتوقف الجندي مصوبا بندقتيه تجاه الطفل، الذي يلتف لمواجهته ويرفع يده اليمنى مصوبا حجره تجاه الجندي، يُنزل الجندي سلاحه، ويُنزل رأسه خوفا وحماية من إصابته بالحجر الذي ألقاه الطفل.
وينقلب المشهد في نهايته، ليلتف الجندي ويعود للخلف راكضا، بينما يلتقط الطفل المزيد من الحجارة ويلاحقه، مشيرا بيديه للأطفال المتواجدين بأن يلحقوا به ويتقدموا.
"وفا" عثرت على صاحب العدسة التي التقطت المشهد، لتروي الحكاية، بعد 24 عاما.
المصور مجدي العربيد، قال لـ"وفا": كنت من المصورين القلائل في القطاع خلال الانتفاضة الاولى، وكان قبلي الزميل قاسم كفارنة، وهو أول من بدأ بالتصوير في وكالة WTN البريطانية، اشترتها وكالة Ap فأصبحت APTN ، واليوم تعرف بالاسوشيتيدبرس (Ap).
في إحدى جولات التصوير في مخيم جباليا، قرب مركز جباليا العسكري، التابع لجيش الاحتلال الاسرائيلي، بتاريخ 6-3-1994، كان هناك فتية ومواجهات، وكان طفل اسمه محمد عبد ربه، في حدود العاشرة من عمره، يبيع الجرائد في المكان، لاحظت خروج أحد الجنود من المبنى العسكري، وقيامه بملاحقة الطفل عبد ربه، الذي بدوره كان قد تقدم تجاه المبنى لإلقاء الحجارة.
ويضيف العربيد: لفت نظري الموقف وشعرت بعين المصور أن شيئا ما سيحدث ويستحق التركيز عليه، فتابعت الطفل الذي تراجع وهو يحمل الحجارة أمام الجندي المتقدم، وبعد عدة خطوات وملاحقة من الجندي للطفل، سمعت صراخ ضابط أمام المبنى على الجندي في إشارة لأنه تجاوز الخط الأمني المسموح به للجنود بالتقدم، ما دفعه للتراجع، في تلك اللحظة تقدم الطفل عبد ربه وهاجم الجندي بالحجارة.
ويتابع: جاءت صحافة أجنبية كثيرة تطلب مني الذهاب لمقابلة محمد في بيته ورواية المشهد، كان محمد يعيش في بيت مستور، ومع قدوم السلطة الوطنية عام 1994، انضم محمد بعد سنوات إليها، ليصبح لاحقا ضابطا في الشرطة.
الصورة أخذت شهرة ومجدا شعبيا، وأصبحت عالمية بعد بثها وانتشارها، حاول الاسرائيليون استغلالها، وأن الجندي انساني لذلك لم يطلق النار على الطفل، وقاموا بتسويق روايتهم في محاولة للحصول من مؤسسات دولية على جائزة تتعلق بالإنسانية لصالح الجندي، لكنهم فشلوا.
ويوضح العربيد: اتصلت بي القناة الأولى في التلفزيون الاسرائيلي، من أجل جمعي في حوار مع الجندي الذي لم يعرف سوى اسمه الأول "أمير" للتعليق على ما جرى، لكنني رفضت، وهاجمت ادعاءهم بإنسانية الجندي، قلت لهم: الجنود أطلقوا النار على عشرات الأطفال أمامي، بعضهم قتل وبعضهم أصيب فلماذا تركزون على جندي لم يطلق النار على طفل، والسبب تعليمات وصراخ ضابطه وأمره بالعودة خشية عليه.
ويضيف: كان معي في تلك اللحظة عادل الهنا مصور وكالة Ap، وقام بالتقاط صور فوتوغرافية "ستيل" وحصد عليها جائزة.
وحول تلك المرحلة، قال العربيد: كنا نصور خلسة، في احدى المرات دخلت قنًا للدجاج وبدأت تصوير الأحداث، وفي مرات عديدة كنا نضطر لفتح ثغرة في جدار وتثبيت العدسة من خلالها للتصوير، كنا مستهدفين بشكل مباشر من قوات الاحتلال، خصوصا أن كاميراتنا كانت صغيرة الحجم من نوع "super VHS" ، كانوا يتهموننا بأننا نصور لفصائل المقاومة، شخصيا اتهموني بالتصوير لصالح حركة "فتح" ومنظمة التحرير، فطالبت الوكالة بكاميرا كبيرة، فجاءوا لي بكاميرا بيتا كام وبدأت التصوير بها، اعتقلت عدة مرات، وأصبت 9 مرات، أبرزها كان في احادث النفق (أيلول 1996) حيث تركت الرصاصة عجزا في يدي، كانت آخرها في العام 2005، اصابة بليغة برصاص من العيار الثقيل، وهي الاصابة التي دفعتني للخوف والابتعاد عن التصوير.
ويتابع: لم تكن هناك هواتف نقالة ولا انترنت ولا بث حي ومباشر، كان زمن "البيجر"، كنا نتواصل عبره ونتلقى من خلاله الاشارات المكتوبة. وكانت المهنة وقتها تمتلكنا، نترك الطعام مع الأبناء لنذهب إلى الأحداث، وكان شارع الثلاثيني ومخيمات جباليا والشاطئ من أكثر المناطق سخونة.
كانت الصورة مؤثرة في الرأي العام الدولي، وفي داخل دولة الاحتلال. كانت مدة الكاسيت 15 دقيقة، بعد الانتهاء من التصوير نرسله بسيارة أجرة إلى مكتب الوكالة في القدس، والتي بدورها تقوم بمنتجته ونشره.
ويقول: في عام 1995 أخذني الرئيس الراحل ياسر عرفات معه إلى واشنطن لتوقيع اتفاقية طابا، مصورا شخصيا وممثلا عن تلفزيون فلسطين، وكانت المساحة المخصصة للتلفزيون الاسرائيلي أكبر من المساحة المخصصة لنا، لأنه لم يكن هناك اعتراف بنا كدولة، فاعترضت وطالبت بمساواة المساحة وهذا ما حصل، وحاليا أعمل مدير إذاعة صوت الحرية.
محمد هو الطفل الذي قال فيه الأديب الكرمي، عزت الغزاوي: "من يشهد أن الطفل الذي ما أتى بعد، يبحث عن صنارة صيد! دعوه يخرج على الخروج حتى يصل".