قصب الوادي
زهران معالي
يتماوج مد من أعواد البوص المتراصة على أطراف وادي الباذان شرق نابلس مع بعض نسمات الهواء، فيما يقطع هذا التماوج إنحناء بعض تلك الأعواد؛ ضربة منجل من حرفيين امتهنوا صناعة القصب منذ خمسة عقود.
يوميا، مع بزوغ الشمس، يغادر محمد الهندي (42 عاما) برفقة أشقائه الثلاثة، ورشة القصب خاصتهم في منزلهم الواقع على نقطة تقاطع بين بلدتي الباذان والفارعة شرق نابلس، إلى الأودية القريبة بحثا عن أعواد القصب.
فيما يعمل بقية أفراد عائلاتهم أطفالا ونساء، بدأب شديد، يتبادلون الأدوار بينهم خلال فترتي العمل الصباحية والمسائية، في نسج أعواد البوص وجدلها، لإنتاج أكبر قدر ممكن من المظلات "المعرشات"، وجدران لتزيين الحدائق والمنازل بأطوال وأحجام مختلفة.
يقول الهندي لـ"وفا"، إن عائلته تعمل بمنتجات القصب منذ عام 1967، وإنه توارث مع أشقائه المهنة عن والدهم الذي نشط في صناعة سلال القش، وأدخلوا عليها تعديلات بسيطة كإنتاج الحصر والمظلات وجدران الحدائق، لتناسب حاجة السوق.
يبدأ الهندي عمله يوميا بقطع أعواد البوص في السادسة صباحا ويستمر حتى الحادية عشرة صباحا، في مناطق وادي الباذان والنصارية والفارعة، يأخذ استراحة قصيرة فترة الظهيرة، قبل أن يعود برفقة أفراد عائلته لنسج وجدل تلك العيدان فترة المساء.
"القصب يجب أن يكون ناضجا من الأودية، ويبدأ العمل به مباشرة بعد قطعه وفق القياسات المطلوبة وعادة تكون مترا، ويتم تنظيفه من الأوراق، قبل أن يبدأ النسيج". يتابع الهندي.
ولعملية قطع البوص مواسم تمتد من شهر نيسان/ ابريل إلى شهر تشرين الثاني/ نوفمبر، فيما يترك في بقية الأشهر، حيث يكون ضعيفا وقصيرا ليكمل نموه ويصبح جاهزا للقطف.
ونبتة البوص أو القصب، نبات معمر يتراوح ارتفاعه بين 50-150سم، قوي ومستديم وتوجد له جذور زاحفة، والساق قائم ناعم، ونصلُ أوراقه منبسط يبلغ عرضه 0.8-2 سم. ويصل طوله إلى 60 سم، وينتهي بقمة حادة حوافها خشنة الملمس، ويتوسطه عرق ابيض الغمد ورقي ناعم.
وينمو البوص عادة في الحقول والبساتين المروية، خاصة في المناطق الدافئة، أريحا ووادي الباذان والفارعة، وكذلك ينمو في المناطق المفلوحة والمهملة وعلى جوانب الحقول، وينمو بكثافة على حواف القنوات، وتنتقل بذوره مع مياه الري.
ويشير الهندي إلى أن مهنة صناعة القصب ملتصقة بالمسطحات المائية، ليكون الحرفيون على مقربة من منبع ذلك البوص الذي ينمو فيها، مؤكدا أنه لا يزرع بل ينمو داخل المياه الراكدة دون تدخل بشري.
"عند انتهاء القصب من منطقة الباذان، نتوجه لمناطق في طولكرم وجنين وأريحا، حيث يتواجد القصيب فيها بكميات قليلة". يتابع الهندي.
داخل ورشة القصب، بدأت الابنة الصغرى هديل (11 عاما) وشقيقاها توزيع أعواد البوص واحدة تلو الأخرى فوق سلكين حديديين متوازيين مثبتين بقضبان، ورصّها، ثم جدلها بآلة حديدية صغيرة، مشكلين فرشا بطول خمسة أمتار وبعرض متر واحد، بعد ساعة من العمل.
"منذ خمس سنوات أساعد والدي في جدل القصب ونسجه، أحب تلك المهنة وأساعد والدي يوميا بعد أن أنهي دراستي".. تقول الطفلة.
ويقول الوالد أثناء طيه فرش القصب الذي نسجته هديل، إنهم يقدمون منتجاتهم حسب رغبة زبائنهم الذين يحددون الأحجام والأشكال التي يريدونها، منوها إلى أن غالبية زبائنهم من أصحاب المشاتل، وتصل منتوجاتهم لمناطق القدس وجنين وأريحا وأراضي الـ48.
ويستقل الهندي في عمله عن أشقائه ناصر وعبد الله، إلا أن ورشة قصب واحدة تجمعهم أمام منازلهم ويوحدهم حب المهنة والخبرة، وتسويق المنتجات، حيث ينتجون مجتمعين 2500 متر مربع من القصب شهريا.
ولا تقتصر استخدامات منتجات القصب على الزينة، وفق الهندي، بل بات السبيل للمقدسيين والفلسطينيين في منطقة الأغوار لإقامة جدار يسترهم من جيرانهم المستوطنين الغرباء ومعرشات تحميهم من حر السماء، إثر حرمانهم من البناء بقرارات احتلالية.
"تخدم الحصر المصنعة من القصب ما يقارب 20 عاما على الأقل"، يؤكد الهندي.
ويؤكد عبد الله الهندي (53 عاما)، الذي يعمل في هذا المجال منذ 22 عاما، أن صناعة القصب مهنة حرفية تراثية يعشقها، وسيبقى ينتجها لأنها صارت جزءا من حياته لا يستطيع التخلي عنها مهما كانت الظروف.
"درست ثلاثة أبناء، مهندس ومحاسبة، ومهندس اتصالات، من خلال عملي بتلك المهنة"، يقول الهندي.
ـــ