طريق الطحان تقترب من نهايتها
جميل ضبابات
ذات صباح من أيام شهر نيسان (أبريل) من العام 1991 خط عدنان أبو حامد، تاريخا لا ينساه على سور بيته.
حدث ذلك تماما في اليوم الخامس عشر من ذلك الشهر في قرية الساوية، على بعد نحو 25 كم جنوب نابلس في الضفة الغربية، حين عاد إلى القرية يقود جرارا زراعيا يجر وراءه مطحنة متنقلة، فأراد تخليد ذلك التاريخ بخط يده.
اليوم، بعد مضي 27 عاما على ذلك الصباح، ما زال واحدا من عدد قليل جدا من الطحانين الجوالين الفلسطينيين قادرا على رواية تفاصيل ذلك التاريخ المحفور أيضا في الذاكرة، عندما زاد عدد المطاحن المتنقلة في الضفة الغربية واحدة.
بين حواري بعض القرى الصغيرة وأمام منازل ريفية يمكن لأبو حامد (45 عاما) أن يدلي بقصة واحدة من المهن التي راجت وتختفي الآن في صباح يوم من أيام تشرين الأول 2018.
لسنوات طويلة، كان أبو حامد يلبي طلبات السكان في عدة قرى جنوب نابلس، لكنه وغيره من المتواجدين في ساحة منزله يقول الرجل" كان ذلك من الماضي".
وعمل الرجل في طحن حبوب القمح وتحويلها إلى طحين، وعبر سنوات طويلة خبز الدقيق في القرى بفعل المطحنة التي أحضرت في ذلك اليوم.
واليوم يختفي الطحانون الجوالون سنة بعد سنة.
ينتمي أبو حامد إلى عائلة زراعية في قرية توصف بأنها واحدة من أكثر القرى التي يتعلق سكانها بالعمل في الأرض. وفي الصيف يحصد الفلاحون هنا قمحهم. وعلى مدار السنة يجول منذ نحو 4 عقود الرجل في القرى يطحن القمح، وحسب إحصائيات متقاربة فإن الفلسطينيين ينتجون فقط 8? من القمح المعد للطحين، فيما يستوردون 92? من دول مثل أوكرانيا وتركيا وروسيا.
قبل أن تأخذ مهنة الطحان المتجول شهرة محلية واسعة في العقود الأخيرة من القرن الماضي، كانت عائلات كثيرة تتجه إلى المطاحن التقليدية الثابتة. ذاتها عائلة أبو حامد كانت تملك مطحنة ثابتة في القرية، وقبل ذلك كان السكان وآخرون من القرى المجاورة يسافرون في بعض الأحيان لمسافة 50 كيلومترا لطحن الحبوب.
لكن أبو حامد بقبعته التي لا تفارق رأسه طيلة أيام، وابتسامته المتقطعة بين الحين والأخر يقول "أردنا أن نذهب للناس عوضا عن سفرهم للمطاحن البعيدة".
في الماضي القريب، ويقدره أبو حامد بنحو عقد من الزمن كانت القرى تنتظر عدنان أبو حامد. اليوم يخرج الرجل من دون برنامج معد مسبقا، فاتصال تلفوني قد يحدد برنامجه، وأي قرية من نحو 6 قرى يجول فيها قد تكون هدفه.
تظهر نسبة الزبائن الذين ما زالوا يطلبون الطحان المتنقل ضئيلة جدا، لكنها تتسم بالإخلاص والولاء لهذا النمط من الحياة.
في أثناء إعداده المطحنة في ساحة المنزل قبل التحرك صباحا، يقدر أبو حامد بنسبة لا تستند إلى أرقام محددة عدد زبائنه الآن" لا يتجاوزون 10? من زبائنه في الماضي".
يردد شاب آخر يدعى محمد خليل الفكرة نفسها، لكنه يحيطها بتفسير اقتصادي اجتماعي وأبعاد عالمية.
يقول الشاب "العولمة ضربت رغيف الخبز البلدي وغيرت من شكله ومن تفكير الناس".
ويعطي مثالا شخصيا على ذلك.
فحتى العام 1996 وهو العام الذي خرج فيه خليل للعمل في السوق الإسرائيلية لأول مرة، لم يعرف غير شكل وطعم رغيف الخبز الذي تعده عائلته محليا بطحين محلي، لكنه شاهد هناك في أسواق العمل الإسرائيلية عشرات الأصناف من الخبز، كما يقول.
ويسود جدل قصير حول الكمية التي يحتاجها الإنسان من الخبز المعد منزليا والآخر المعد في المخابز الكبيرة.
ويقول جد ابو حامد وهو رجل يتحدث لغة اقرب إلى الفصحى "الحياة تغيرت والخبز تغير".
ويستهلك الفلسطينيون وفقا لإحصائيات تقريبية أدلى بها زياد أبو نافع رئيس نقابة أصحاب المخابز في الضفة الغربية لوكالة "وفا" نحو 600 ألف طن من الطحين.
وهذه الكمية مؤشر واضح على تغير النمط الاستهلاكي المتعلق بسلة الخبز.
وهي نسبة تؤشر على استحواذ المطاحن الكبرى على هذا العمل.
ويقدر خبازون عدد الأرغفة التي ينتجها كيلو واحد من الطحين 12 رغيفا. ويقدر فلاحون عدد الأرغفة المنتجة محليا في المخابز الصغيرة بنصف العدد.
في اليوم السابق كان أبو حامد قد تلقى اتصالا من إحدى العائلات التي حافظت على ولائها للطحان المتجول، لكن عندما استقرت المطحنة في ساحة منزل تلك العائلة، لم يطحن الرجل سوى نصف كيس من القمح.
وفي بيت مجاور طحن أيضا كمية مماثلة.
وقال الرجل انه الناس يستخدمون الآن الطحين على نحو ضيق في إعداد الطعام وليس الخبز. وغالبا ما تركن العائلات أكياس القمح في ساحات المنازل ويقول الرجل انه يحملها ويضعها في فم المطحنة ويعيدها طحينا.
وقال أبو حامد وهو يتفحص الطحين الذي خرج ساخنا من المطحنة "ذهب. ذهب" في إشارة منه إلى اللون والجودة كما شرح لاحقا.
وقال الرجل، إن جولته هذا الصباح لم تخرج من نطاق عائله واحدة، وهناك في ساحة أحد المنازل، شرحت سيدة تدعى حسنية رجا (90 عاما) بجمل غير منسقة كيف كان سكان قريتها يطحنون القمح في الماضي البعيد نسبيا.
في اليوم الذي خط فيه أبو حامد ذلك التاريخ، كان قد مضى نحو 43 عاما على مغادرة عائلة رينو حيفا عام 1948 ضمن الذين تركوا منازلهم في المدينة الساحلية بعد سيطرة العصابات الصهيونية عليها.
كانت عائلة رينو معروفة بأنها من رواد العمل في الموانئ منذ عام 1850، فهناك عمل الرجال في الآلات الميكانيكية وماتورات مختلفة وانفتحوا على عالم التصميم والصناعات الإنشائية، وما حدث قبل عام 1948 لم يكن من الماضي.
ويمكن القول، انه لو لم تحدث التغريبة الفلسطينية، لما تركزت صناعة المطاحن من الألف إلى الياء في مدينة نابلس التجارية التي وصلت إليها عائلة رينو وافتتحت لها مشغلات للصناعات الحديدية في شارع فيصل، وهو واحد من شوارع تجارية معروفة في المدينة.
لقد أحصى قرويون عددا لا يتجاوز الآن خمس مطاحن تعمل في محيط نابلس، بعد أن نظر في مطلع تسعينيات القرن الماضي إلى العمل في مهنة طحان متجول، فرصة كبيرة لوظيفة خاصة بربح جيد وتقدير عائلي.
من أطراف نابلس الشرقية بدأت عائلة رينو هذه الصناعة بعد انتقلت إليها من حيفا. صحيح أن الطحانين الجوالين باتوا يعدون على أصابع اليد الواحدة، ومنير رينو (72 عاما) أبو هذه الصناعة يقول انه أنتج آخر مطحنة في العام 2010.
"في كل قرية كانت هناك مطحنة تجرها التراكتورات" قال رينو لمراسل وفا، وقد تصاعدت من حوله أبخرة الحديد والألمنيوم الذي يصهر ليعاد تشكيله مرة أخرى واستخدامه في صناعات إنشائية محلية.
منذ تخرج رينو من المدرسة الصناعية في نابلس عام 1967 وضع نحو 500 مخطط لصناعات كلها تتعلق بالتكسير، فمن تكسير الحجارة، الى الحبوب الى حبوب البهارات المختلفة. وفي وقت لاحق منذ ذلك التاريخ بدأ صناع حيفا ذاتها يلاحقون هذه الصناعات في نابلس بعد عقود على هجرة آل رينو منها كما روى ابنه فراس.
وأصبحت العلاقة بين كل من يبحث عن أضراس الطحن المستخدمة في تحويل الحبوب والبهارات والحجارة إلى قطع صغيرة في فلسطين التاريخية وال رينو معروفة إلى حد كبير.
يشير الجيل الثالث من هذه العائلة الى ذلك بفخر، ويعرض الابن فراس تلك المخططات للزوار.
هنا في هذه الصناعة قد يورث الآباء لأبنائهم أكثر من الجينات، فعدة أجيال من هذه العائلة تعاملت مع تذويب المعادن وإعادة صناعتها في عملية صامتة وبعيدة عن كتاب التاريخ.
في الساوية التي تتخللها طرق جبلية، ينظر أيضا أبو حامد إلى مطحنته التي يشغلها الجرار وهو صناعة أوروبية بناقل حركة دوار بفخر شديد بعد كل هذه العقول من العمل، لكنه يقول "يبدو أنني سأوقفها قريبا، الطريق اقتربت من نهايتها".