البسطرة
رشا حرزالله
ما أن بدأ الأسرى بالصراخ "بسطِروا يا شباب" حتى باشر ضياء وزملاؤه في سجن "عوفر" الاحتلالي بارتداء البساطير (الأحذية) وملابس "الشاباص" (الزي الخاص بالأسرى)، ووضع مقتنياتهم في الحقائب، استعدادا لمواجهة "القمعة".
و"البسطرة" واحدة من عشرات المفردات التي يستخدمها الأسرى للتعامل فيما بينهم، أو مع إدارة السجن، وتعني أن يجهّز الأسرى أنفسهم، للتصدي ومواجهة القمع الذي تنفذه وحدات "ميتسادا" و"درور" و"اليماز" و"اليمام"، و"النحشون" التابعة لإدارة مصلحة السجون.
منتصف أيلول/ سبتمبر من العام 2010، كانت المرة الأولى التي يشهد فيها ضياء علي الحروب (28 عاما)، من بلدة دورا جنوب محافظة الخليل، أسلوب القمع الذي تنفذه تلك الوحدات ضد الأسرى، والتي اقتحمت حينها أقسام سجن "عوفر" حيث كان يقضي حكما بالسجن لعامين ونصف.
استعد الأسرى بمن فيهم ضياء، وبدأوا بالطرق على الأبواب بأقدامهم وأرجلهم، ومنهم من استخدم العلب المعدنية الفارغة، وعلت أصواتهم بالتكبيرات، لإحداث إزعاج أكبر لدى إدارة السجن، تعبيرا عن احتجاجهم على اقتحام بعض أقسام السجن، وتفتيش الغرف والاعتداء على الأسرى.
استمر التكبير والطرق على الأبواب لعشر دقائق، وانتقل ليشمل كافة أقسام السجن الستة عشر، حينها قامت الإدارة بفصل التيار الكهربائي وقطع المياه، حيث تخشى من أن يقوم الأسرى برش أفرادها بالماء أو الزيت الساخن، كنوع من المقاومة، وهذه تعد، بالنسبة للأسرى، إشارة على نية وحدات القمع اقتحام السجن.
لم يمضِ وقت طويل، حتى بدأ نحو 300 عنصر من وحدات القمع "ميتسادا" المدججة بالسلاح والكلاب البوليسية والهروات باقتحام الأقسام، وباشروا برش "بودرة" الغاز المسيل للدموع عبر الفتحة الصغيرة الموجودة أسفل باب كل غرفة والتي يعرفها الأسرى بـ"الأشناف"، ويتم من خلالها إدخال الطعام لهم، في وقت كان أحد الأسرى قد أخرج عصا "القشاطة" لمحاولة صدهم.
حاول ضياء ومن معه من الأسرى سدّ أنوفهم تجنبا لاستنشاق الرائحة، ومنهم من دفن رأسه تحت أغطية الأسرّة، وآخرون هربوا ناحية النافذة الخلفية للغرفة. يصف ضياء وضعهم في تلك اللحظة بأنهم كانوا "كالطير المذبوح".
"صرنا نضرب بهستيريا على الأسرّة والجدران، بعض الأسرى حاولوا تسلقها، وآخرون هربوا ناحية النافذة الصغيرة الموجودة ناحية السقف "الطاقة"، لكن شاهدنا عناصر "ميتسادا" يتدلون بواسطة حبال من خلف الغرفة، ليحكموا محاصرة السجن والسيطرة على الأسرى"، يقول ضياء.
كانت تلك اللحظات الأكثر رعبا بالنسبة لضياء الذي لم يسبق له أن عاش تجربة "القمعة" كما يسميها الأسرى. ويذكر أن أحد أفراد "ميتسادا" أعاد رش البودرة المسيلة للدموع مرة أخرى حتى "انشلت" حركة الأسرى بشكل تام، ثم بدأ أفراد الوحدة بالصراخ، وإطلاق التهديدات عبر مكبرات الصوت، "طالبين منا إخراج أيدينا واحدا تلو الآخر من خلال فتحة الباب لتكبيلها.
"كنا غير قادرين على الحركة، كنا نمشي مترنحين، ومنا من وصل إلى الباب زحفا، مددنا أيدينا عبر الفتحة، كبلونا، ومن ثم اقتحموا الغرفة وأخرجونا، ومن لم يستطع الوقوف والمشي جرّوه على الأرض من قدميه، كنا نميّز بين أفراد الوحدات من خلال اسمها المكتوب على "الجعبة" التي يرتدونها، هكذا يصف ضياء المشهد.
خلال "القمعة"، قام عناصر "ميتسادا" بتجميع الأسرى في ساحة السجن، وإخراج كل ما بداخل الغرف من مقتنيات الأسرى الخاصة، صور عائلاتهم، وملابسهم، وأحذيتهم، وكتبهم، ولم يبقوا على شيء، ثم صادروا جميع الأجهزة الكهربائية البسيطة التي بحوزتهم، سخان ماء ومذياع قديم، وأبقوا الأسرى مكبلين لأربع ساعات قبل أن يسمحوا لهم بالعودة إلى الغرف التي كانت فارغة تماما.
دخل بعض الأسرى حينها في حالة صحية صعبة، ويشير ضياء إلى أن أحد الأسرى كان مريضا بالقلب، وبقي لشهر كامل عقب "القمعة" لا يقوى على مغادرة فراشه، ولا يخرج إلى "الفورة" بسبب الغاز، صار زملاؤه يحملونه لقضاء حاجته، ويساعدونه على الاستحمام، كما أن أحد الأسرى الأشبال كان مقعدا بسبب إصابته بالرصاص قبل اعتقاله، وخلال "القمعة" كان قد حاذى الموت.
كما عاش ضياء وباقي الأسرى في تلك الفترة وضعا نفسيا صعبا، وكنوع من رفع المعنويات باشر بعضهم بالغناء داخل الغرف وخلق جو من الفرح للتخفيف عنهم، وتذكر المواقف المضحكة التي جرت خلال عملية "القمعة".
يذكر ضياء أحد هذه المواقف بالقول "إن وحدات القمع عادة ما تقوم برش البودرة المسيلة للدموع داخل غرف الأسرى وتتبعه برش القليل من الأوكسجين، وما حصل هو أن أحد الأسرى صدّ الغاز بإغلاق الباب بالفرشة التي ينام عليها، وعندما حاول عنصر "ميتسادا" رش الأكسجين اصطدم بالفرشة، حينها شعرنا بالموت الحقيقي، لكن بعد انتهاء "القمعة" كانت من أكثر المواقف التي أضحكتنا.
بعد مرور شهر على "القمعة"، وبينما كان ضياء الحروب يهمّ بتصفح أحد الكتب الموجودة داخل مكتبة غرفته، حتى انتشرت بقايا بودرة الغاز المسيل للدموع كانت قد علقت داخل الكتاب ما أدى إلى إصابته وزملاءه بحالة اختناق.