مراعٍ في سياج مكهرب
الحارث الحصني
كان ممكنا لبرهان بشارات قبل سنتين أن يصل إلى المراعي المفتوحة في كثير من المناطق التي تطوّق خربة "مزوقح" في الأغوار الشمالية، لكن تحولات بدأت تحدث على المنطقة منذ ذلك الوقت حالت دون ذلك.
فعندما وضع مستوطن "كرفانا" –بيتا متنقلا- على قمة جبل من جبال تلك المنطقة المترابطة مع بعضها، صار الوصول إلى مئات الدونمات من المراعي المفتوحة على رعاة الأغنام الفلسطينيين أمرا صعبا، وتدريجيا أخذ الوصول إليها يوما بعد يوم شيئا يشبه المستحيل، وسيصبح مستحيلا بعدما سيّج المستوطنون، أمس الأحد، مئات الدونمات بأسلاك مكهربة.
فالمنطقة التي ظل الفلسطينيون طوال سنواتهم يتغنون بأنها واحدة من مناطق الأغوار الشمالية، ذات الطابع الرعوي، أصبح الوصول إليها اليوم ضربا من الخيال.
قبل سنتين كان بشارات يستطيع السير مع أغنامه نحو 40 كيلو مترا عن خيامه التي يقيمها في خلة "مكحول"، أما اليوم فأكثر مسافة يستطيع أن يبتعد فيها بأغنامه هي 10 كيلو مترات.
يقول بشارات: "كنت قديما يوميا أرعى بأغنامي في مناطق تبعد عن خيامي عشرات الكيلومترات، لقد كنت أصل الشارع الرئيسي".
قبل عام خرج بشارات في نزهة لم تتجاوز حينها الساعة والنصف، في المنطقة التي سلبها المستوطنون، ليعيد الذكريات كما وصفها، لكن تخوفا ظل يلازمه جعله يعود مبكرا.
وقال: "نتحسر على الأيام الماضية عندما كنا نجوب كل المنطقة بأغنامنا ليل نهار"، وبدأ بتسمية عشرات الامتدادات الجغرافية التي تلتقي ببعضها البعض في خِرب أطلق عليها الفلسطينيون أسماء مختلفة، والتي أصبح الوصول إليها أمرا مستحيلا، باستثناء عدد منها صار الوصول إليها على خوف.
وذاته بشارات وصف الوصول إلى تلك المناطق بجملة "على رقبتك"، وهي جملة تدل على خطورة الوصول إليها.
في القرن الماضي كانت تعيش عشرات العائلات الفلسطينية التي تعتمد بشكل أساسي على تربية المواشي، في تلك المناطق، لكن تغيرات ديموغرافية أدت إلى تناقص عددها حتى وصلت إلى الصفر.
مواطنون سكنوا المنطقة قديما، وحاليا يسكن بعضهم في طوباس، قالوا إن هذه المناطق هي واحدة من المراعي الممتدة على طول الشريط الحدودي بين الضفتين.
ويقول الناشط الحقوقي عارف دراغمة: "هناك سياسة واضحة يتبعها المستوطنون لطرد الفلسطينيين من المنطقة، إنها سياسية يكملها الاحتلال".
عندما وُضع الكرفان في منطقة "مزوقح"، كان أربعة مستوطنين يقيمون بشكل دائم فيه، لكن عددهم أصبح اليوم ما يقرب من عشرين مستوطنا، حيث أقاموا بيتا اسمنتيا، ووضعوا حظائر أبقار، وجلبوا عشرات الأبقار التي صارت ترعى في تلك المراعي.
صباحا، شاهد بشارات أولئك المستوطنين، وهم يلاحقون عددا من المواطنين في المناطق التي يستولون عليها، ولم يكن بشارات بمنأى عن الاحتكاك بهم، عندما مر مستوطن بمركبته بالقرب منه، وبدأ بإطلاق "الزوامير".
بشارات الذي يسكن في منطقة مكحول منذ عام 2003، قال إن أحد هؤلاء المستوطنين يحمل مسدسا، كما يستخدمون الكلاب في مطاردة رعاة الأغنام الفلسطينيين.
بشكل يومي، ينشر حقوقيون فلسطينيون، ونشطاء سلام إسرائيليون، صورا ومقاطع فيديو للمستوطنين وهم يطاردون رعاة الأغنام الفلسطينيين من تلك المراعي، بحماية واضحة من جيش الاحتلال.
وعندما يريد بشارات في هذه الأيام أن يرعى في الأماكن التي يتجول فيها المستوطنون بشكل متكرر، فإنه يظل حذرا من وجودهم فيها، لكن في الأوقات التي يكون فيها نشطاء من مؤسسات حقوقية اسرائيلية، تدعم الفلسطينيين، فإنه يتعمق في تلك المراعي.
قبل سنوات كانت الرحلة اليومية التي يسلكها بشارات في رعي ماشيته، تبدأ عند الثالثة عصرا، ويتجه نحو الشرق حتى يطل على الشارع الرئيسي، ويبيت ليلته في الجبال المنتشرة والمطلة على الشريط الحدودي، قبل العودة إلى الخيام عند ضحى اليوم التالي.
لكن هذه الأيام صارت ذكريات، كما قال بشارات.
وأضاف، "عندما أتذكر كيف كنت أرعى في تلك المراعي، وأعد الشاي على الحطب فإن نوبة حزن تنتابني".
في السنوات القليلة الماضية، أصبح أمام الفلسطينيين أن يعوضوا النقص في المراعي المفتوحة، التي ظلت مصدرا مجانيا لإطعام ماشيتهم، وذلك بشراء الأعلاف.
وقال بشارات، "في سني الخير توفر المراعي علينا ثلث كمية الأعلاف التي نشتريها"، واستدرك أنه "أطعم العام الماضي 80 طنا من الشعير، وبعض الأطعمة الأخرى".
وعلى بعد 100 متر من التجمع الاستيطاني في المنطقة، توجد بئر ماء دأب المستوطنون على ترميمها منذ فترة، يقول بشارات إن عددا منهم يعملون على ترميمه بشكل يومي، وهذا عامل آخر يزيد من فرصة تواجدهم في المنطقة بشكل دائم.
ووفقا لمركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة "بتسيلم"، فإن الوجود السكاني في الأغوار، طفيف، وأراضيها خصبة، وتشمل مساحات مفتوحة كثيرة.
وأضاف "بتسيلم"، انه يمكن هناك تطوير مراكز مدينيّة وزراعة متطوّرة لأجل التصدير، ومرافق بنية تحتيّة في مجالَيّ الطاقة والصناعة، ولكنّ معظم أراضي منطقة الأغوار وشمال البحر الميت تستغلّها إسرائيل لاحتياجاتها وتمنع الفلسطينيين من استخدام نحو 85% من المساحة.
وأشار إلى أن المستوطنات أقيمت بشكل مخالف للقانون ولكن بدعم وحماية وتمويل حكومي، وهذه البؤر الاستيطانية توسّع مجال سيطرة المستوطنات وتضاعف مساحات الأراضي الفلسطينيّة المنهوبة، وهذا النهب ترافقه أعمال العنف والتهديدات ومهاجمة الرّعاة وسلب الأراضي الفلسطينيّة.
وأوضح "بتسيلم"، أنّ أعمال العنف التي يقوم بها المستوطنون ليست "استثناءات" وإنّما هي جزء من نشاط استراتيجي تسمح به سلطات الاحتلال وتشارك فيه وتستفيد من تبعاته، والنّتيجة سلب المزيد من الأراضي من أيدي الفلسطينيّين في جميع أنحاء الضفّة الغربيّة وهو الأمر الذي يسهّل السّيطرة على الضفّة ومواردها.