مستقرضات الخير!!
الحارث الحصني
لم تدم فترة الاستقرار التي كانت في القسم الأول من الأيام الثمانية الأخيرة من شهر شباط، والحديث يدور هنا منذ العشرين من شباط الماضي، وحتى مساء السادس والعشرين من الشهر ذاته، لتكون فلسطين تحت تأثير منخفض جوي، وُصف بأنه من أقوى المنخفضات في هذا الموسم المطري الجيد.
وفي تلك الأيام التي سبقت ذلك المنخفض، تذبذبت درجات الحرارة التي كانت، ليصحو الناس في السابع والعشرين على أمطار كانت قوية وغزيرة على فترات، بدأت منذ منتصف تلك الليلة، ليكون هذا المنخفض إيذانا واضحا بأن فترة زمنية لها حكايتها عند الفلسطينيين قد بدأت.
وهذه الفترة هي "المستقرضات"، التي جاد الفلسطينيون مثل غيرهم من سكان بلاد الشام، بالحديث عنها بموروثهم الشعبي، بعديد الحكايات والأمثال الشعبية.
وفي بلاد الشام يتشابه سكانها بقول الأمثال الشعبية، لتقارب المناخ فيها، لكن باختلاف بسيط في مفردات تلك الأمثال.
في المنخفض الأخير كانت قوة الأمطار، وتركيزها في الأيام الثلاثة الأخيرة من شباط، واقتصرت منذ الأول وحتى الرابع من آذار، على زخات مطرية خفيفة، ودرجات حرارة متذبذبة.
فما قصة هذه التسميات التي أطلقها سكان بلاد الشام على الأيام المستقرضات.
تقول الرواية الشعبية إن تسمية هذه الأيام بالمستقرضات تعود إلى أن عجوزا كبيرة في السن استهانت بمطر شباط، وظنت أن الشتاء ولّى دون عودة، مستدلة على ذلك بالأيام المستقرة والدافئة التي سبقت بدايتها، فأحس شباط بالإهانة لذلك.
فما كان رد شباط عليها؟
بحسب الموروث الشعبي المتداول بين العامية فإن شهر شباط استقرض أربعة أيامٍ من شهر آذار الذي يتبعه في ترتيب الأشهر الميلادية، وذلك للرد على تلك العجوز التي استهانت بمطره، خصوصا عندما كانت الأيام التي سبقت المستقرضات يسودها الاستقرار، وبعض الدفء.
وتعقيبا على ذلك قال الفلسطينيون قديما عن هذه الفترة المثل الشعبي الذي نصه: "آذار يا ابن عمي، أربعة منك، وثلاثة مني ".
وفي سني الخير والمطر، تكون هذه الأيام ماطرة بشكل كبير، إذا كان موسم الأمطار في ذلك العام جيدا، مثل الموسم الحالي، وتأكيدا على ذلك، فقد بلغت نسبة الأمطار منذ مساء السادس والعشرين من شباط الماضي، وحتى الثالث من آذار (68) ملم حسب إحصاءات نشرتها دائرة الأرصاد الجوية.
فعندما قال الفلسطينيون هذا المثل، فإنهم كانوا يقصدون به حكاية يمكن تفصيلها بناء على أقوال شعبية موروثة بين الأجيال جاءت وليدة تجارب حياتية، أو بدراسات أعدها باحثون أكاديميون ومهتمون بالموروث الشعبي.
وتفسير هذا المثل حسب دراسة حول الأمثال جمعها وأعدها محمد كمال جبر، في كتاب سلسلة التراث الشعبي الفلسطيني (من الخابية2)، فإن هذا المثال يقال على لسان شهر شباط، وهذه الأيام السبعة تسمى "بالمستقرضات"، وفيها يسقط المطر بغزارة، ويتذكر الفلاح هذه الأيام إذا تأخر المطر في شهر شباط.
والأمثال التي قالها الفلسطينيون قديما عن هذه الفترة، كانوا يعنون بها هطول الأمطار بغزارة، والبرد الشديد.
عندما حل صباح السابع والعشرين من شهر شباط، كانت كمية الأمطار في طوباس قد وصلت لــ(12) ملم، حسب إحصائية نشرتها بلدية طوباس، و(33) ملم من ساعات صباح ذلك التاريخ حتى صباح اليوم التالي.
واقفا بجانب عين الفارعة، جنوب طوباس، والتي انفجرت هذا الموسم بعد جفاف لــسنوات طويلة، قال زياد دراوشة: "هذا موسم مطري قوي، منذ صباح اليوم والأمطار قوية والعين غزيرة على فترات، لقد صدق المثل".
وبدأ سريعا -وهو يشير نحو حوض العين الذي كان قديما ينتشي بالحياة البشرية التي لازمته أيام وفرة المياه- وقال لمراسل "وفا": "سيرتفع منسوب المياه في هذا العين إذ استمرت الأمطار".
ذاتها العجوز المقصودة في الحكايات الشعبية، فإنها كما قال عنها الموروث الشعبي، إنها جزت صوف أغنامها، عندما ظنت أن البرد انتهى لما كانت الأيام قبل بداية المستقرضات تشي بالدفء، فجاء برد المستقرضات فأصابت الأمراض أغنامها.
يقول دراوشة: "مطر اليوم- والمقصود هنا السابع والعشرين من شباط- يرافقه لسعة برد أعادتنا لأيام "المربعانية" الباردة".
بالنسبة للفلسطينيين فإنهم يعولون كثيرا على نجاح محصولهم البعلي، إذا ما أمطرت السماء في هذه الفترة، ويقول مواطنون من طوباس، قد زرعوا في وقت سابق محاصيل بعلية، إن هذه الأيام تعني لهم بناء على تجارب زراعية سابقة، أن الموسم الحالي موسم منتِج.
وعندما سئل دراوشة هل للمطر الذي نزل في أيام "المستقرضات" فائدة على المحاصيل البعلية، قال: "هذه سنة غِلال، يعني أن محصولها البعلي سيكون ايجابيا".
ويؤكد ذلك رئيس قسم المحاصيل في زراعة طوباس ماهر صلاحات بقوله: "تدخل النبتة البعلية من أواخر شباط حتى بداية آذار، مرحلة حساسة، وذلك أنها تتهيأ لأن تفوت بعد أيام في عملية الإزهار، ولهذا تحتاج إلى المطر".
وأضاف أن المطر في هذه الفترة يعطي مخزونا وافرا للأرض من حيث الرطوبة، وعليه تكون الظروف واردة بأن يكون الموسم إيجابيا ومبشرا.
بالنسبة للباحث في التراث الفلسطيني حمزة العقرباوي، فإن أيام "المستقرضات" ذاتها تحمل أسماء أخرى غير ذلك الذي يتحدث عن العجوز، فمرة يطلق عليها اسم "مستقرضات الروم" أو "الأيام الغُبر".
وبالحديث عن اسم "مستقرضات الروم"، يقول عقرباوي عنها، وهو شاب يهتم بالبحث عن أصول الأمثال الشعبية، إن تفسير هذا المثل هو أن "الروم" هنا مقصودٌ بها التقويم الغربي.
واستشهد الفلسطينيون بأمثال مشابهة للحديث عن هذا المثل بقولهم "ما في قيامة بتقوم، إلا بعد مستقرضات الروم".
ويظل تفسير اسم "الأيام الغُبر"، هو أن ذلك يرجع للغبرة وهي ذرات التراب التي تثيرها الرياح عندما تنشط في بعض الأحيان، قال عقرباوي.
في نهاية الأمر، هذه قصة سبعة أيام جاءت محملة بكثير من المطر، والبرد، والخير، واستبشر المواطنون فيها خيرا كثيرا، وكانت الحكاية الشعبية لديهم حاضرة في رفدها بكثير من الأمثال.
والآن نحن على بعد ساعات قليلة من انتهاء أيام "المستقرضات"، ويتوقع أن تسقط زخات متفرقة من الأمطار، كما توقعت دائرة الأرصاد الجوية.
ولغاية صباح اليوم الاثنين، وصلت كمية الأمطار في طوباس، حسب ما نُشر على الموقع الإلكتروني لدائرة الأرصاد الجوية، منذ بداية الموسم المطري 497.2 ملم، ما نسبته 115% من المعدل السنوي.