جريمة في الضوء.. ومحاسبة غائبة
رشا حرزالله
بينما كانت سجود تتصفح موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، حتى ظهر أمامها مقطع فيديو نشرته إحدى الصفحات الإخبارية، يظهر فيه عدد من جنود الاحتلال الإسرائيلي يتبعون لكتيبة "نيتسح يهودا" المخصصة لليهود المتدينين "الحريديم"، داخل إحدى الآليات العسكرية يعتدون بالضرب الوحشي على أسيرين خلال اعتقالهما.
كان الأسيران مقيدي اليدين ومعصوبي العينين، بينما آثار الدماء بادية على وجه أحدهما، وراح الجنود يوجهون لهما الشتائم والألفاظ النابية، بينما صراخهما يتعالى من شدة الألم وسط قهقهات الجنود.
للوهلة الأولى لم تتعرف سجود إلى هوية الأسيرين، لتصاب بالذهول والصدمة عندما قرأت عنوانا صغيرا كتب أعلى الفيديو كان نصه: "جنود الاحتلال يعذبون الأسير زياد شلالدة ونجله محمود بطريقة وحشية خلال اعتقالهما" لتعرف أنهما والدها وشقيقها.
هرعت البنت إلى أمها خديجة تطلعها على ما حصل، والتي أصيبت بالانهيار ونوبة بكاء هستيرية، وكانت كلما أعادت مشاهدة الفيديو تبكي كمن يشاهده للمرة الأولى، تقول خديجة "عندما رأيت الفيديو تحطمت".
ففي الثامن من كانون الثاني/يناير الماضي، داهمت قوة كبيرة من جيش الاحتلال الخيام التي تسكنها عائلة زياد شلالدة (44 عاما) البدوية، الواقعة في قرية أبو شخيدم شمال غرب مدينة رام الله، مدعومة بالكلاب البوليسية، وقامت باعتقال زياد ونجله محمود (21 عاما)، واقتادتهما إلى جهة غير معلومة.
وفي التفاصيل تروي خديجة أن عشرات الجنود اقتحموا في ساعات الليل الخيام، وقاموا بجرّها على الأرض، والاعتداء بالضرب والصراخ والشتائم على أفراد عائلتها المكونة من 14 فردا، معظمهم من الأطفال، كما تعمدوا إفلات كلابهم البوليسية تجاههم لإخافتهم.
"عندما حاولت حماية أطفالي والتهدئة من روعهم قام الجنود بالصراخ علي، وجرّي (وسحبي) على الأرض لمسافة طويلة، وأجلسونا بالعراء يومها كان الطقس شديدة البرودة، طلبت منهم إبعاد الكلاب البوليسية عني فرفضوا، ومن ثم ربطوا زوجي بعامود الخيمة وضربوه أمامنا بحزام، ومن ثم أعادوا الكرّة من ابني محمود" تقول خديجة.
مرت ثلاث ساعات كانت الأصعب في حياة خديجة كما تشير، ليقوم بعدها جنود الاحتلال باقتياد زوجها وابنها، إلى داخل الآلية العسكرية واعتقالهما.
لم تعرف خديجة ما حل بزوجها وابنها بعد ذلك، رغم ما نقله لها أحد المحامين من تعرضهما للضرب الوحشي بالبساطير (احذية الجنود) وأعقاب البنادق على أنحاء جسديهما كافة، حيث أصيب الأب إصابة بالغة في ضلعه الأيمن وكسر في الأنف أفقدته الوعي واستدعت نقله إلى مستشفى "تشعاري تسيدك" حيث مكث فيه ثلاثة أيام، أجريت له خلالها عملية في الأنف، ليتم بعدها نقلهما إلى مركز تحقيق المسكوبية.
ومن ضمن ما أبلغت به الأم أيضا، أن جنود الاحتلال كذبوا على ابنها وأخبروه بأن والده فارق الحياة، كنوع من تعذيبه نفسيا، وهو ما رآه الخبير في القانون الدولي حنا عيسى أنه دليل دامغ على ما تمارسه سلطات الاحتلال بحق المعتقلين من جرائم تعذيب خلال اعتقالهم، والتي تحظرها اتفاقية مناهضة التعذيب لسنة 1984.
إلا أن خديجة لم تكن تتخيل أن حالهما سيكون على هذا النحو من السوء، بعد أن رأتهما للمرة الأولى في الخامس من شباط/فبراير الماضي داخل قاعة المحكمة.
تصف وضع زوجها وابنها قائلة: "عندما أحضروهما إلى المحكمة كانا مكبلين بالسلاسل، زوجي بالكاد يستطيع المشي، وجهه متورم ومائل إلى الزرقة، خاصة ناحية الأنف والعينين للحد الذي لم يكن يستطيع معه الرؤية بشكل جيد، حاولت التحدث معهما لم أستطع.. رأيتهما من بعيد، كان التعب والإعياء باديا عليهما".
فيديو عملية التعذيب التي تعرض لها زياد ونجله محمود التقطه أحد جنود الاحتلال المشاركين في عملية الاعتقال بكاميرا هاتفه المحمول، وضجت بها وسائل الإعلام وصفحات التواصل الاجتماعي، وهي ليست المرة الأولى التي يمارس فيها الجنود وحشية تجاه المواطنين.
ويعقب عيسى بالقول إن الاحتلال يريد من خلال نشر هذا الفيديو ترهيب المواطنين، وكسر إرادتهم من خلال العنف الذي يمارسه ضدهم، ويريد منهم أن يخلوا فلسطين لإحلال المستوطنين مكانهم.
ويشير إلى أن ما تمارسه سلطات الاحتلال يتنافى كليا ما مع ورد في اتفاقية جنيف الرابعة لسنة 1949، وكيفية حماية المواطنين الواقعين تحت الاحتلال وحماية ممتلكاتهم وتوفير الحقوق اللازمة لهم، كما أنها بذلك تنتهك الاتفاقية والبرتوكول الملحق بها لسنة 1977.
ويعتبر عيسى أن مقطع الفيديو المشار اليه يؤكد ارتكاب قوات الاحتلال جرائم حرب بحق شعبنا، وبحسب القانون الدولي لا بد من توجيه مقترفي الجرائم على اعتبار أنهم "أشخاص طبيعيين" للمحكمة الجنائية الدولية لمحاسبتهم على جرائمهم بحق المواطنين.
"لكن تجدر الإشارة أنه وبحسب نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية لسنة 1998، الذي يعتبر أن المحكمة قضاء تكميليا، حيث يجب أن يسبقه إجراء محاكمة لمقترفي الجرائم في بلدانهم الأصلية، وهو ما يتطلب من حكومة الاحتلال ملاحقة هؤلاء الجنود ومعاقبتهم في البداية، لكن القضاء الإسرائيلي شريك في الجريمة وغير نزيه ولا يقوم بهذا الإجراء ما يتطلب من المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية فاتو بنسودا البدء بإجراءات التحقيق استنادا للمواد المذكورة بالاتفاقية" يقول عيسى.
الشواهد على أن القضاء الإسرائيلي شريك في الجريمة كثيرة، فلا يمكن التعويل على قضاءٍ أطلق سراح جندي قاتل كـ "اليئور أزاريا" الذي أعدم الشهيد عبد الفتاح الشريف في 24 آذار/مارس عام 2016 وهو جريح في منطقة تل ارميدة بمدينة الخليل، في جريمة وثقتها كاميرا أحد المصورين، فمن لم يحاسب على هذه الجريمة لن يحاسب على جرائم أخرى مهما عظمت أو صغرت.