ظريف الطول يعود إلى الميادين
جميل ضبابات
على مدى شهرين متواصلين، كانت أصوات طرق الحديد التي تصدر من إحدى الغرف في قرية برقة شمالي نابلس، تشي بان الأوان قد آن لظهور شخصية جديدة في القرية.
كان بعض الرجال والأطفال، وبعض الزوار، يصلون إلى محددة موسى أبو عصبة، لمتابعته وهو يطوي ويقلب الحديد على النار ويشكل تلك الشخصية يوما بعد يوم.
وبعد شهرين من العمل في قص صفائح الحديد وثنيها وطرقها قال بعض سكان القرية ذات الطابع الريفي والشهيرة بينابيع المياه التي تتدفق من سفوح تلالها، إن أبو عصبة (50عاما) صنع ظريف الطول، وهي الشخصية الفلسطينية الشهيرة في المحكية الشعبية السائدة منذ ثلاثينيات القرن الماضي، عندما كانت فلسطين تحت الانتداب البريطاني.
واقفا بثبات إلى جانب مجسم حديدي مكتمل التكوين على هيئة شاب ذو بنية قوية، قال أبو عصبة الذي عمل في الماضي ضابطا في الأمن الفلسطيني وعاد إلى هوايته في تطويع الحديد بعد أن تقاعد "هذا هو ظريف الطول".
وبات ظريف الطول رمزا للعنفوان وأصبح أيضا رمزا للتغريبة الفلسطينية الطويلة.
بدأت قصة صناعة المجسم منذ أن تعاون أبو عصبة مع صديقه الفلسطيني النمساوي احمد دغلس لإعادة إحياء سيرة ظريف الطول، عبر البحث عن تمويل لصناعة هيكل حديدي يمثله.
قال دغلس الذي كان أيضا يتابع وضع اللمسات الأخيرة، على هذا التمثال "نريد إحياء قصة الرجل القادم من الأسطورة مجددا".
ويروي الرجلان قصصا كانا يسمعانها طيلة حياتهم بقصة ظريف الطول. ذاته دغلس، يروي قصته مع تماثيل العاصمة النمساوية فيينا التي تذكره كل يوم بظريف الطول.
يروي الرجال ما يردده الفلسطينيون في المحكية الشعبية، أن قصة ظريف الطول تعود إلى الثلاثينات من القرن الماضي، عندما تحدث الفلسطينيون في ذلك الوقت عن شاب مشهور بطوله ووسامته، قاتل القوات الانجليزية الغازية، وأصبح بطل ميادين المعارك.
في واقع الحال أصبحت هذه المروية المحكية الشعبية، جزءا من الأغاني الشعبية الفلسطينية، التي انتقلت مع الفلسطينيين إلى الشتات بعد عام 1948.
لكن ظريف الذي كان أبو عصبة يضع عليه آخر لمسات الحت والتلميع وسينصب في واحد من ميادين القرية، لم يعد مروية تاريخية إنما صار هاجسا لدى أبو عصبة ودغلس.
وكلاهما ينتظر الوقت الذي يخرج فيه إلى العلن.
في آخر أيام العمل، استقبل الحداد عددا من مواطني قريته، وروى لمراسل "وفا" كيف اندفع الناس للبحث عن وجه شبه بين أقاربهم وبين وجه التمثال.
قال أبو عصبة لوكالة "وفا": "البعض قال إن ظريف الطول يشبه جده، والبعض الآخر قال انه يشبه احد أعمامه".
وعلق رجل دلف إلى داخل المحددة فيما كان أبو عصبة يزيح بعض الغبار العالق على وجه التمثال "هذا يشبه أبي".
وعلى حد العلم، ليس هناك صورة معروفة لظريف الطول، لكن أيضا ليس هناك تأكيدا واضحا على وجوده أصلا، لكنه بالنسبة لصانع التمثال أصبح حقيقة من حديد يبالغ في تلميعه عبر أدوات الكي التي تعمل بالكهرباء، وضربات الشاكوش الخفيفة.
تحفل القرية بهدوء ملحوظ أثناء النهار، لكنها أيضا تحفل بعمليات حفر وتسوية للطرقات الداخلية، وقريبا من المكان الذي يعمل فيه أبو عصبه سينصب التمثال بعد تسوية الطرقات وإعدادها.
وقال دغلس في إشارة منه إلى المكان الذي سينصب التمثال فيه "هنا سنعيد حكاية ظريف الطول الى الحياة".
وقال رئيس المجلس القروي جهاد شريدة "بدأنا بترميم المنطقة التاريخية في القرية. فيها سنضع رجلا تاريخيا(..) المفروض الآن أن يعيد المشهد الأجيال الجديدة إلى الخلف قليلا للتفكير بقصة ظريف الطول".
وأكد أبو عصبة المعنى ذاته.
وانفرجت ابتسامة ظاهرة على وجه زائر من سكان القرية للتمثال وهو يهز رأسه.
وقال الرجل الذي لم يفصح عن اسمه "لقد صار ظريف الطول بمعنى الكلمة".
لكن التمثال الذي يقف بصلابة فوق أرضية المحددة، أصبح اقرب من أي وقت مضى للخروج للشارع.
بعقاله فوق كوفيته التي ترك جزءا منها فوق احد كتفيه يبدو طول ظريف الطول متجاوزا طول جميع الرجال هنا.
فبعد القياس تبين أن طوله 210 سم، ووزنه 200 كيلو غرام.
وهذه مواصفات فوق المعدل الطبيعي لرجل في الأحوال العادية.
ويبدي أبو عصبة وهو رجل طويل نسبيا مقارنة بالرجال الآخرين الذين وقفوا إلى جانبه اقصر من تمثاله بـ 22 سم.
استنادا إلى المروية الشعبية فان ظريف الطول أو كما يطلق عليه في بعض المناطق الفلسطينية "زريف الطول" هو اسم لاحق لشاب كان يحمل اسما عاديا مثل كل الناس، لكن طوله الملفت حمل الناس على تسميته بهذا الاسم.
" أدركت أهمية تفاصيل الحياة في هيئة ظريف الطول. كان فلاحا عاديا مليئا بالقوة ويعمل ويكسب من عرق جبينه" قال أبو عصبة وهو يتحسس قطعا معدنية وضعها داخل جيب تمثاله.
استنادا للقياسات التي قام بها أبو عصبة، فان التمثال أيضا يتمتع بكتفين عريضين وصدر واسع منتفخ.
فقد اظهر القياس أن عرض صدر التمثال 86 سم.
وظهر صدره مندفعا يعلوه وجه بشاربين معقوفين وسواعد غليظة يحمل في إحداها شاعوبا، وهي أداة شوكية يستخدمها الفلاحون لجمع الغلة بعد الحصاد.
عندما بدأ ابو عصبة بتشكيل ظريف الطول، لم تكن الهيئة النهائية واضحة، لكن ما أن انتهى منه حتى قال بعض سكان قريته، أنها مناسبة جدا للشخصية الفلسطينية في ذلك الوقت.
وقد ألبس التمثال اللباس التقليدي الفلسطيني فيما بدت نهايات الشروال ظاهرة في الأسفل، وحول الوسط الزنار.
بين الحين والآخر، يندفع أحفاد أبو عصبة إلى أطراف التمثال ويتلمسوها. وقال الرجل "ان بعضهم أحبه، وان البعض الأخر خائف منه".