"سفاح" بلباس طبيب
رشا حرزالله
اشتد وجع الأسنان على سعيد التميمي، لكنه خاف من الذهاب إلى الطبيب لأن تجربة زملائه مع "السفاحة"، ولّدت لديه شعورا بالخوف وعدم الثقة، جعله يتفادى عيادة السجن طيلة فترة اعتقاله البالغة 21 عاما، والاعتماد على الطرق التقليدية لتخفيف الألم.
أيلول/ سبتمبر عام 1993، اعتقل سعيد من قريته النبي صالح غرب مدينة رام الله، ونقل إلى سجن نابلس المركزي، وهناك كان شاهدا على ما كانت تقوم به طبيبة الأسنان الإسرائيلية بحق الأسرى الذين كانوا ينعتونها بـ"السفاحة"، لأنها كانت تتعمد قلع أضراسهم السليمة وإبقاء المصابة.
وبعد سنوات من الاعتقال قُدّر لسعيد الذي حكم بالسجن المؤبد، قبل أن يفرج عنه ضمن الدفعة الثالثة من الأسرى القدامى ما قبل أوسلو، أن يعمل عامي (2002-2003) في عيادة سجن الرملة، بعد أن اختاره الأسرى ليكون وسيطا بينهم وبين الطبيب أو كما يسمونه بـ"الحوفيش"، حيث حقق الأسرى هذا المطلب نتيجة إضرابات عديدة خاضوها.
هناك كان سعيد يقوم بالترجمة من اللغة العربية إلى العبرية لتسهيل التخاطب بين الأسير والطبيب، ولمنع احتكاك الأسرى المباشر معه خوفا من أن يقوم بابتزازهم مقابل العلاج كما كان يحدث، ولحماية الأسرى الأطفال أو الذين ليست لهم تجارب سابقة في الاعتقال.
يصف سعيد محتويات عيادة سجن الرملة، وقال: إن فيها مكتبا خاصا بالطبيب، وأجهزة فحص السكري والتنفس وقياس ضغط فقط، أما فيما يتعلق بطب الأسنان فإن بها معدات قديمة وملوثة لا يتم تعقيمها عند الاستخدام، وهذا الإهمال تسبب بإصابة أحد أسرى سجن جلبوع بمرض التهاب الكبد الوبائي.
وكان أول ما لاحظه سعيد في العيادة هو أن أي طبيب فاشل وترفض المستشفيات الإسرائيلية أن يكون ضمن طاقمها، يحضرونه إلى العيادة، ليبدأ مرحلة التدريب على أجساد الأسرى، حيث كانت تمر أشهر وأحيانا سنوات حتى يتم تشخيص المرض، حينها يكون قد فات الأوان على الشفاء، و"داء بهجت" أحد الدلائل على الإهمال.
"داء بهجت" من الأمراض الصعبة التي أصيب بها عدد من الأسرى، وهو يحدث تقرحات كبيرة في الفم والجلد، وألما حادا في العينين والرئتين، كما يؤثر على الكلى والجهاز العضلي الهيكلي، إلى جانب آلام البطن، والغثيان، والإسهال.
يذكر سعيد أن أربعة أسرى أصيبوا بمرض "داء بهجت" بينهم عبد الجواد شماسنة من بلدة قطنة غرب القدس المحتلة، فذهب إلى العيادة لكن الطبيب لم يستطع تشخيصه، وأعطاه أدوية مختلفة ظل يتناولها لعامين، ليتفاجأ شماسنة بعد مدة بتقرير صحفي نشرته إحدى الصحف الإسرائيلية، يفيد بأن إدارة السجون تقوم بتجربة الأدوية الجديدة على "المساجين" قبل عرضها في الأسوق، مرفقا بأسماء الأدوية، جزء منها كتلك التي وصفها الطبيب له، حينها حاول رفع قضية على إدارة السجن لكن لم يتم أخذها بعين الاعتبار.
ومن القصص الأخرى التي يتذكرها سعيد ما حدث مع الأسير محمود خرابيش من مدينة أريحا، والذي أصيب بمرض صعب لم يستطع معرفة ما هو، وفقد الكثير من وزنه حتى وصل 40 كيلوغراما فذهب إلى العيادة، وهناك أعطوه أدوية مختلفة لا تتعلق بالمرض، وبعد سنوات طويلة شفي منه دون أن يحدد نوع الدواء الذي تحسن عليه، حتى طبيب العيادة ذاته لم يعرف، لأنهم لم يكونوا قد شخّصوا المرض أصلا.
وفي إحدى الليالي استيقظ سعيد ورفاقه على صوت صراخ الأسير نزار التميمي، الذي كان يعاني ألما حادا في البطن، ظن الأسرى أنها نوبة عادية، قاموا بغلي ما توفر في الغرفة من أعشاب و"ميرمية"، ووضعوا له ماء دافئا على بطنه، لكن الألم استمر لساعات الصباح، وعندما حضر السجانون للعدد الصباحي، أخذوه إلى العيادة وأعطوه مسكنات وأعادوه إلى الغرفة دون تشخيص، ليكتشف فيما بعد أنه يعاني من ألم المرارة.
"حقنة لا يستغرق إعطاؤها ثانية، تستلزم معاناة لساعات" هكذا لخّص سعيد حال الأسرى المصابين بمرضى السكري، والذين ينبغي إعطاؤهم يوميا حقنة الأنسولين، حيث يضطرون إلى الاستيقاظ مبكرا ليصحبهم السجانون مكبلي الأيدي إلى العيادة وبعد ساعات يتم إعادتهم إلى السجن، في رحلة يصفها بالمملة والمذلة.
ومن المتعارف عليه أنه يحظر على مرضى السكري وضغط الدم والنقرس تناول أنواعا معينة من الأطعمة واتباع "حمية غذائية"، حفاظا على صحتهم، غير أن الأسرى مضطرون لتناول ما هو موجود لأن إدارة السجون لا توفر البدائل.
وينتشر نقص الفيتامينات بكثرة بين الأسرى، خاصة (فيتامين بي 12)، و(فيتامين د)، وهذه ليست بالمسألة البسيطة، لأن ذلك أدى لإصابة العديد منهم بآلام المفاصل والخمول والكسل، وضعف في الذاكرة، وتعويض هذا النقص يحتاج إلى علاج أو توفير أطعمة معينة كاللحوم الحمراء وغيرها لكن الاحتلال لا يوفره.
ومن المواقف القاسية التي عاشها سعيد، كانت عندما أحضر السجانون أسرى أصيبوا بالرصاص خلال اعتقالهم، ولم يكونوا قد استكملوا علاجهم بعد.
"كانوا بعد الاعتقال يأخذونهم إلى المستشفى لانتزاع اعترافاتهم، ومن ثم يأتون بهم إلى السجن، أجسادهم مليئة بالدماء والقيح، ومعظمهم من صغار السن، ونحن لسنا أطباء، ولا نعرف كيف نتعامل معهم، لكنهم كانوا يرون فينا برّ الأمان، وهنا كانت تُلقى على عاتقنا مسؤولية طمأنتهم نفسيا والتعامل معهم في المجال الطبي بحدود ما نعرف وهذا شيء صعب"، يقول سعيد.
ويحكي قصة الأسير قاسم عياد من بلدة السيلة الحارثية غرب جنين، الذي أحضره السجانون عام 2003 إلى غرف الأسرى بحالة يرثى لها، ومصاب بالرصاص، وكان بطنه مفتوحا ويخرج من معدته أنبوب، ومقطب بغرز عشوائية وبعيدة عن بعضها، للحد الذي كان يتدفق الدم والإفرازات من خلالها.
وبتابع: "الطامة الكبرى كانت، أن قاسم الذي كان في الثامنة عشرة من عمره آنذاك، لم يكن يعلم أن الإصابة تسببت له بالشلل، ووجدوا صعوبة في كيفية إبلاغه".
ويقول سعيد: "كنا نتناوب في السهر عليه، نقلب جسده يمينا ويسارا خوفا من أن يصاب بالتقرحات ومع ذلك أصيب، لأن الأسرّة غير مهيأة، فالفرشة رقيقة جدا، ولا تصلح لإنسان معافى، وفي عيادة سجن الرملة كنا نبدل أغطية الأسرّة على نفقتنا، لأن الأطباء لا يكترثون بالنظافة، كنا نحلق رؤوس الأسرى المصابين ونحممهم، ما كان يشعرهم بالخجل خاصة الصغار، لكن بعد فترة تزول الحواجز بيننا".
وفي فترة من عمله بالعيادة، اعتمد سعيد على التشخيص الطبي الذي كان يجريه أسرى أطباء، وفي ذلك يستذكر طبيبا عاما اعتقل وحكم بالسجن مدة عام، كان خلالها يقوم بمعاينة الأسرى ويصف الدواء المناسب لهم، وكان يحضره سعيد لهم من العيادة لتجنيبهم مشقة مراجعة الأطباء، ويقول: "كنا نثق بتشخيص الأطباء الفلسطينيين، بوجودهم كنا نشعر بالأمان".
فصول السنة كانت تؤثر سلبا على حياة الأسرى، خاصة ممن لديهم أمراض جلدية، ويشير إلى أن فصل الصيف كان سببا في معاناة أسير من مدينة نابلس، كان يعاني من مرض جلدي وكانوا يضعونه في سجن عسقلان الذي ترتفع فيه نسبة الرطوبة كنوع من الإذلال.
كل ذلك جعل الأسرى يتوخون قدر الإمكان الذهاب إلى العيادات وعلاج أنفسهم بأنفسهم، من خلال اتباع وصفات تقليدية لتخفيف الألم، كالملح والميرمية لوجع الأسنان، وتجميع قشر الرمان وغليه لاستخدامه لأوجاع البطن والمعدة وغيرهما.