كلما اتسعت الرؤية
كتب: رئيس تحرير صحيفة الحياة الجديدة
على نحو لافت ذهب الرئيس أبو مازن هذه المرة في مخاطبته قادة العرب والمسلمين في قمتيهما، العربية الطارئة، والإسلامية بدورتها العادية، اللتين عقدتا في مكة الكرمة، ذهب إلى معاني الخطبة القصيرة، لا لأن خير الكلام ما قل ودل فحسب، بل ولأن اتساع الرؤية يفرض "ضيق العبارة" وفق ما اكتشف "النفري" الذي يوصف بأنه أحد اشهر مشايخ الصوفية زمن الخلافة العباسية، فهو الذي قال "كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة"، وضاقت بمعنى انها تكثفت واقتصدت بالقول تماما.
واتساع الرؤية، يعني بالضرورة اتساع المعرفة، واتساع المعرفة في الرؤية الفلسطينية، هو ما قاد القرار الوطني الفلسطيني المستقل دوما الى صواب موقفه النضالي، في التصدي لمختلف التحديات التي واجهها، وما زال على هذا المنوال، وهو يتصدى اليوم لأصعب التحديات واخطرها.
ولا شك ان خطبة الرئيس أبو مازن القصيرة في هاتين القمتين، هي خطبة الرسالة البليغة، أن فلسطين العارفة بحال الواقع السياسي العربي الراهن، لم تعد ترى في مطولات الخطاب ثمة فائدة، برغم انها لم تكن يوما تتوهم ان هذه المطولات يمكن أن تقود إلى تبدلات استراتيجية في هذا الواقع، ولكن مسؤوليتها القومية هي التي ألزمتها قبل هذا اليوم بأن تفيض في شرح واستعراض طبيعة المخاطر التدميرية التي تهدد الأمن القومي العربي، إذا ما تركت فلسطين وحدها تواجه هذه المخاطر، وهي المسؤولية التي أعاد الرئيس أبو مازن تأكيدها في خطبته القصيرة، بأن "أمن فلسطين جزء لا يتجزأ من الأمن القومي العربي، ولهذا لا تقبل التهديد لأية دولة عربية من اية جهة كانت".
ومع هذا التأكيد لم يشأ الرئيس أبو مازن سوى تذكير الأشقاء، عربا ومسلمين، بقرارات قممهم بشأن القضية الفلسطينية، من أجل تفعيلها على نحو كامل، لأن فلسطين ليست بحاجة إلى قرارات جديدة، بل إلى ترجمة لما اتخذ من قرارات في مجمل القمم السابقة، لاسيما أن الموقف الوطني الفلسطيني غير قابل للتراجع ولا المساومة في نضاله المشروع، لاسترداد كافة حقوق شعبنا المشروعة، وتحقيق كامل أهدافه العادلة في الحرية والاستقلال والعودة، وفق قرارات الشرعية الدولية، ومبادرة السلام العربية، هذه التي باتت تتعرض اليوم لخطر الانقلاب على تراتبية بنودها، بل وعلى غايتها السياسية الواقعية، الرامية لتحقيق السلام العادل في الشرق الاوسط ، سلام فلسطين بدولتها الحرة المستقلة، وعاصمتها القدس الشرقية.
"القدس ليست للبيع، وشعبنا لن يركع إلا لله"، هذا هو ملخص العبارة الفلسطينية في "ضيقها" البليغ التي ارادها الرئيس أبو مازن في ذهابه إلى معنى الخطبة القصيرة، وهو "الضيق" الذي يحمل من المعاني ما يمكن أن يؤلف اطول المطولات البلاغية، وهو في الوقت ذاته يؤكد على نحو حاسم، ان كل محاولة لتجاوز هذا الموقف الوطني الفلسطيني، الرافض للبيع والمساومة، لن تكون سوى مضيعة للوقت ومحاولة عبث مكلف لأصحابها أولا، حين "تفتح الباب واسعا امام خيارات لا تحمد عقباها" مثلما اكد ذلك الرئيس أبو مازن في خطبته القصيرة امام القمتين العربية والاسلامية.
إنه اتساع الرؤية الفلسطينية، اتساع معرفتها، ولأن الوقت بعد الآن، هو وقت الفعل الذي يفرض اختصار القول، وتكثيفه لصالح بلاغة المعنى وتأكيده، ذهب الرئيس أبو مازن إلى خطبته القصيرة، برسالتها التي لا شك انها وصلت على اوضح ما يكون، لا لقادة العرب والمسلمين في قمتيهما فقط، وإنما لكل اطراف الصراع في هذه المنطقة، وخاصة لأصحاب صفقة القرن الفاسدة، والساعين لتمريرها تحت عناوين وعود الوهم والخديعة.