ورحل فارس نابلس..
زهران معالي وبدوية السامري
في صباح الثاني من حزيران 1980، كانت الساعة تشير إلى السابعة صباحا، عندما دوى صوت انفجار سمعه الكثير من سكان مدينة نابلس، وتعالت الأصوات في المدينة تنادي لمعرفة طبيعة الانفجار؟ أين وقع؟ ومن يستهدف؟.
سرعان ما بدت الأمور تتضح شيئا فشيئا لسكان المدينة، بأن انفجارا استهدف سيارة رئيس بلدية نابلس بسام الشكعة، وتضاربت الأنباء حول استشهاده، وهب أهالي المدينة لساحة مستشفى رفيديا حيث جرى نقله.
كما يروي العديد من المواطنين الذين يتذكرون جيدا ما حصل، أن سماع عبارة "انه ما زال على قيد الحياة"، كان النبأ الذي خفف صدمة الأهالي، ولكن وضعه الصحي الخطير جعلهم في حيرة التساؤلات الصعبة، ما طبيعة إصابته، وهل سينجو من الهجوم الإرهابي؟.
لم يكن الشكعة وحده من تعرض لمحاولة الاغتيال يومها، بل رفيقاه في لجنة التوجيه الوطني رئيسا بلديتي رام الله كريم خلف والبيرة إبراهيم الطويل تعرضا لاعتداء إرهابي مماثل.
خسر الشكعة في الحادث قدميه، ولم يعد قادرا على المشي، وبقي مقعدا منذ ذلك الحين حتى مساء أمس عندما وافته المنية في إحدى مستشفيات نابلس، بعد 39 عاما من الإعاقة الجسدية.
لكن الاعاقة هي من انتصرت بالنهاية عندما وظفها الشكعة لخدمة قضيته وأبناء شعبه.
فقد وظف الشكعة إعاقته لشرح معاناة الشعب الفلسطيني، وكسب التأييد العالمي للمنظمة كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني.
ووفق ورقة بحثية للدكتورة مها المصري "بسام الشكعة رجل وشعب في مواجهة الاحتلال وإفشال سياساته ومخططاته"، فإن بدايات العمل السياسي للرجل بدأت بالتحاقه عام 1948 بجيش الإنقاذ وانضمامه لصفوف حزب البعث العربي الاشتراكي، وكان أحد الداعمين لمشروع الوحدة بين سوريا ومصر ورافضا لفكرة الانقسام.
وبعد حرب حزيران عام 1967 اهتم الشكعة ورفاقه بإفشال محاولات الاحتلال اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم لمنع التهجير، وشكل فرقا لمقاومة الاحتلال.
ومن موقعه كرئيس للبلدية عمل على التصدي لعمليات مصادرة الأراضي والعقاب الجماعي وفرض الضرائب.
الشكعة دفع ثمن بطولاته من جسده، كما هددت سلطات الاحتلال، فقد تم تهديده من قبل وزير الحرب الإسرائيلي عيزر وايزمن بمواجهة إيذاء جسدي، اذا ما استمر في معارضته للاحتلال.
كما تعرض الشكعة للاعتقال، والنفي، والملاحقة والغربة في مواجهة الاحتلال.
شكل الشكعة عام 1973 برفقة النقابات المهنية وقيادات الفصائل لجنة التوجيه الوطني والتي قادت الكتل الوطنية لاحقا لخوض الانتخابات البلدية عام 1976، وساعدت في تفوقها على منافسيها ونجح الشكعة برئاسة بلدية نابلس التي عمل خلالها على التصدي لمخططات الاحتلال بإقامة إدارة مدنية هدفت لإلغاء صفة الاحتلال عن السلطات الاسرائيلية.
عام 1976 حاولت سلطات الاحتلال الإسرائيلي مواجهة المقاومة الفلسطينية وتجريد منظمة التحرير من قاعدتها الشعبية؛ من خلال إجراء انتخابات بلدية في محاولة لخلق قيادة بديلة عن المنظمة، إلا أن الأمور سارت على غير ما أرادت، حيث خاضت القوى الوطنية الانتخابات تحت شعار "نعم لمنظمة التحرير الفلسطينية لا للاحتلال"، ونجحت كتلة المنظمة في مدينة نابلس برئاسة الشكعة، ما شكل ضربة قاسمة للاحتلال.
وتشير المصري في ورقتها البحثية، إلى أنه كانت لتلك لانتخابات آثار مهمة في التصدي لمشاريع الاحتلال ومخططاتها، وفي مقدمتها الادارة المدنية وروابط القرى، ما عرض رؤساء المجالس البلدية الشكعة وكريم خلف لمحاولة الاغتيال.
اعتبر الشكعة الاستيطان عدوه الرئيسي في معركته الوطنية مثلما دافع عن منظمة التحرير، وخاض صراعا عميقا مع الاحتلال رافضا كل مخططاته الاستيطانية التي سعت إلى تطبيع الحياة مع الاحتلال، والتي جعلت الاحتلال مقتنعا بعدم جدوى إغرائه بأية وسيلة كانت.
للمناضل الشكعة تاريخ طويل في مقارعة الاحتلال وإفشال مخططاته الاستيطانية، فعمل الرجل بعد حرب حزيران 1967 على تثبيت الفلسطينيين في أرضهم من خلال تشجيعهم على استصلاح الأراضي في الأغوار، فقام بالزراعة بنفسه في المنطقة خاصة بعد استهدافها في خطة "ألون" الصهيونية.
ونجح الشكعة في تحدي الاحتلال الذي سعى لبناء مستوطنة في محطة سكة الحجاز في نابلس والممتدة من مسجد الحاج معزوز المصري إلى مسجد الانبياء، فوقف إلى جانب رجال المدينة والعلماء والوطنيين مانعا البناء بالقوة.
وقاد الشكعة وزملاؤه في لجنة التوجيه الوطني عام 1979 مواجهات جماهيرية ناجحة ضد مشروع مستوطنة "الون موريه" على أراضي قرية روجيب شرقا، متحديا الأمر العسكري الذي أصدره الجنرال وايزمن لإبعاده من وطنه، ما أرغم الاحتلال على التراجع عن بناء المستوطنة في ذلك الوقت وإلغاء أمر الإبعاد والإفراج عنه من سجنه.
كما يسجل للشكعة أنه نجح في استعادة أراضي خلة "السروايل" من أراضي قرية حوسان قضاء بيت لحم بعد بيع أحد الأشخاص 400 دونم لصالح "كيرن كايمت"، حيث تمت إعادة مبلغ مالي للمشتري واستعادة الأرض، وفق ما توضح المصري.
دفع الشكعة ثمن مواقفه من جسده وحريته، فقد تعرض للاعتقال عام 1979 واعلن من سجنه الاضراب عن الطعام لمدة اسبوعين وقد كان للالتفات الشعبي والجماهيري داخل الوطن وخارجه نتيجة باستجابة سلطات الاحتلال لهذه الضغوط والافراج عنه.
عندما دخل الصحفيون وكان أولهم حينها صحفي من محطة الـ"cnn"، تفاجأ الأخير بأنه لم يجد الشكعة ذلك الإنسان العاجز المريض الذي فقد نصف جسده، قال له الصحفي: "مستر شكعة ألا تلاحظ نفسك وأنت هكذا، تبتسم"، أجابه: أنا الآن تجذرت بالأرض أكثر، إن استطاعوا قطع أقدامي فلن يستطيعوا قطع نضالي".
اليوم تودع المدينة فارسها إلى مثواه الأخير في المقبرة الغربية، لكن عجاج خيله ستبقى حاملة تاريخ نضاله الذي لا يُنسى.