اقرأوا التاريخ
كتب رئيس صحيفة الحياة الجديدة
تاريخ القضية الفلسطينية، الذي يفوق عمره الآن المئة عام، تاريخ موجع، وجارح، وصادم، في تفاصيله اللافلسطينية، من حيث طبيعة الحبكات التآمرية التي صاغتها الحركة الصهيونية، عبر جهازها التنفيذي، الوكالة اليهودية، منذ عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، والتي وظفت خلالها الواقع السياسي العربي بأبرز ممثليه في ذلك الوقت، بوهم تبادل المصالح والمنافع، وظفته لصالح مشروعها الاحتلالي لفلسطين بملحقاته التدميرية التي استهدفت تدمير الشخصية الوطنية لشعبنا الفلسطيني، ومحو حضوره السياسي وبعثرته مجرد لاجئين بلا أية قضية، ولا أية هوية، ولا أي كيان، وتاليا دون أي مستقبل..!!
ولعل أهم ما يجب ان نقرأ نحن الفلسطينيين هو هذا التاريخ، ولغاية واحدة على الأقل ان نعرف جيدا وندرك بوعي لا يقبل أي جدل، ان الكيانية الفلسطينية هي التي كانت مستهدفة على الدوام، ولا تزال كذلك حتى اللحظة الراهنة، وان الحبكات التآمرية الصهيونية لا تزال على حالها، وعلى نحو ما أشبه اليوم بالأمس! ولكن لم يعد بوسع ذلك الأمس، ان ينتصر على هذا اليوم بعد الآن، لأن الكيانية الفلسطينية قد شبت تماما عن طوق الوصاية والاحتواء، وباتت ذات أطر وبنيات ومضامين وأهداف غير قابلة للشطب، وفي عنوانها الرئيس منظمة التحرير الفلسطينية، باتت هي الرقم الفلسطيني الصعب، الذي لا يمكن تجاوزه، أو القفز عنه، أو تفكيكه الى اعداد لا قيمة لها، وبرغم هذه الحقيقة إلا ان محاولات تدمير هذا الرقم لا تريد ان تتوقف، وهي اليوم تأخذ أشكالا مغايرة، وبالأدوات الاقليمية ذاتها تقريبا، وحتى بأدوات "فلسطينية" تزعم المقاومة، ولكن دون أية ملامح وطنية، وبلا أي برنامج واقعي وحقيقي للمقاومة، وحركة حماس نموذجا وواقعا..!!
لم تتحقق النكبة الفلسطينية عام ثمانية وأربعين من القرن الماضي، جراء القوة المسلحة لتحالفات الغرب الاستعماري مع الحركة الصهيونية فحسب، وانما جراء التآمر المحموم على الكيانية الفلسطينية أيضا، والذي امتد لسنوات طويلة قبل النكبة، وبما يعني انه أحد منتجيها..!! لهذا ينبغي ان نقرأ هذا التاريخ جيدا، ولكن ليس بعقلية تصفية الحسابات بروح البداوة الثأرية، ولا بعقلية الانغلاق القُطري الشوفيني/العنصري، وانما بعقلية التنور والتفحص المعرفي، كي لا نسمح لنكبة اخرى ان تتحقق لشعبنا، والأهم كي نؤمن تماما ان مسيرتنا النضالية الحرة، لا يمكن لها ان تتقدم نحو تحقيق اهدافها العادلة والمشروعة، دون راية القرار الوطني المستقل، في أطره الشرعية، وبقيادته الشرعية.
ليس بوسعنا ان نسرد هنا صفحات من ذلك التاريخ، والتي صيغت في "الغرف السوداء" والتعبير للقائد الوطني الكبير الراحل احمد الشقيري، وليس بوسعنا ذلك، لا لأنها صفحات كثيرة وجارحة تماما، ولا تحتملها مقالة صحفية، فقط، وانما لأن الوقت لم يحن بعد لمثل هذا السرد، هنا في هذه الكلمة على الأقل، حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.
التاريخ ليس مجرد وثائق وروايات، وانما هو مسار ورؤية، وحين ندرك حقيقته هذه، ندركه كمثل كائن حي، ولكنه الكائن الذي يكبر ولا يشيخ، وكلما أصبح أكبر في عمره، كان أكثر مصداقية وحكمة، شأنه شأن كتّابه ومن يكتبون له، وحين التعاطي معه على نحو موضوعي، وبغاية اكتساب المعرفة الصحيحة، لطبيعة حراكه ومحركاته، وحقيقة معطياته، يصبح التاريخ طريقا سالكة نحو المستقبل الذي نريد، وهذا ما يجعلنا نؤكد ان قراءة التاريخ على هذا النحو، ضرورة حرية، بقدر ما تحقق من وعي صائب، خال من الأوهام والزيف، وابداعي بقدر ما يتجاوز من أخطاء الماضي، وقوي وشجاع وحكيم، بقدر ما يواصل التصدي لحبكات التآمر الصهيونية، التي ما زالت تدور في تلك "الغرف السوداء"...!!!
اقرأوا التاريخ ولا تقرأوا سواه في اللحظة الراهنة، لكي ندرك بوضوح تام، لماذا يشدد الرئيس أبو مازن في كل مرة، ان منظمة التحرير الفلسطينية لم تفوض أحدا للتحدث باسمها، ولن تفوض أحدا بذلك مطلقا، لأن الكيانية الفلسطينية بقرارها الوطني المستقل ما زالت هي المستهدفة، لكنها بالطبع وقد شبت عن ذلك الطوق ستظل عصية على التدمير، وقيادتها الشرعية في هذا السياق، وكما يقول المثل العربي "تعرف من أين تؤكل الكتف".