"شاتيلا" التي لا يعرفها أحد
يامن نوباني
....
يقولون الزمن كفيل بنسيان الهموم الفردية والجماعية أو التخفيف من حدتها، إلا أن بعضها عالق في الروح وراسخ في الذاكرة ويصعب نسيانه لهول ما شاهدنا وسمعنا من ألم عنه.
"صبرا وشاتيلا" مفردتان تعيشان بداخلنا كجرح شخصي جدا، ما أن يأتي أحد على سيرتهما حتى نُصاب بقهر واضح ووجع فوق البكاء، آلاف الجثث والدمار، نسوة فقدن الزوج والسند، أطفال خرجوا وحيدين لا ليرووا، إنما لتشهد حياتهم بعد ذلك على هول المشهد، ورضّع ساقتهم الحياة إلى طرق مختلفة، قاسية في معظمها، دون أن تشرح لهم الرواية الكاملة.
قبل عدة أسابيع، قرأت أن الروائي الفلسطيني أكرم مسلم ابن قرية تلفيت جنوب نابلس، أصدر روايته الرابعة بعنوان: "بنت من شاتيلا" 2019، عن دار الأهلية في الأردن، سبقها "هواجس الاسكندر" 2003.. و"سيرة العقرب الذي يتصبب عرقا" 2008.. و"التبس الأمر على اللقلق" 2013.. وهنا نجد مسلم روائياً يسير في خط واضح وثابت ومتحكم في النشر، ولا أعتقد أن الأمر له علاقة بالصدفة، أن ينشر روائي كل خمس سنوات رواية!.
الجو حار جدا (درجة الحرارة 32 مئوية)، في يوم طويل (الواحد والثلاثون من تموز)، يضرب حوله الناس نكاتا كثيرة ويصفوه بآخر يوم في سنة تموز، أجلس في المقعد الأخير في مركبة أجرة تحمل سبعة ركاب، على جانبي الأيمن شابان قبل سن العشرين بقليل، يتحدثان في كيفية الحصول على ألعاب نارية لبيعها في مناسبات اجتماعية مختلفة، خاصة في فصل الصيف، الذي تكثر في المناسبات، التي تدفع الناس إلى التعبير عن فرحها عبر إطلاق الألعاب النارية في السماء، رغم انها محظورة في بلادنا، لكثرة مصائبها، عدا عن الازعاج الذي تسببه، لكنها بالنسبة للشابين تجارة مربحة وهذا موسمها.
أنا أعرف معنى أن تحمل كتاباً في مركبة عمومية أو حتى في محطة انتظار، ما زالت الفكرة إلى اليوم غريبة وفي حالات لا بأس بها تصبح مساحة للتندر عليك! وهو ما حصل معي يومها.. الشاب الذي يجلس قربي يلقي سمعه قريبا من فم الشاب المحاذي له، ويقول له: "شوف هالاهبل جاي يقرأ في السيارة!"، فيرد الآخر: "مش لاقي شغلة!".
افكر قليلا في محادثتهما القصيرة وهي وشوشات لم يشكا أني سمعتها بوضوح، فأكمل القراءة، ما زلت في الصفحة الثالثة عشرة، قبل أن أتنبه إلى تشتت تركيزي بسبب صوت المذياع العالي، والأغنية ذات الكلمات التافهة التي تهتز لها أكتاف السائق الخمسيني.
طالبت السائق بخفض صوت المذياع، وهو حقي كراكب تَعِب، وكراكب يريد أن يقرأ قليلا، السائق لا يسمع صوتي، لأن ضجيج الأغنية أعلى، فينبهه راكب يجلس خلفه مباشرة إلى طلبي، فالتفت السائق وخفض الصوت قليلا وسأل الراكب: لماذا يريد ان نخفض الصوت؟. فيرد الراكب بنبرة تحمل سخرية خفيفة: "هذا مثقف يخوي وملقيش مكان يقرأ فيه كتبه إلا السيارة!". فتعالت ضحكات خفيفة من كافة الركاب ما عدا راكب غط في نوم عميق، دون أن تزعجه الأغنية أو يلفت نظره الكتاب.
في طريق "عيون الحرامية"، وهي واد منخفض في الطريق بين نابلس ورام الله، يدخل التشويش على موجات المذياع، ما يدفع السائق لكتم صوته، هنا، اتخذت قراراً بالهجوم واستغلال حالة الهدوء التي خيمت على الركاب، لأشرح لهم أن الكتاب الذي بين يدي يروي قصة لقاء في مدينة هامبورغ الألمانية بين فلسطيني قادم من مدينة رام الله، بفلسطينية نجت وهي في سن السادسة من مذبحة صبرا وشاتيلا.
وضعت الكتاب جانباً، وبدأت أروي لهم ما أعرفه وما قرأته عن المجزرة "صبرا وشتيلا"، التي سبق لي الكتابة عنها في ذكراها السنوية: استمرت 43 ساعة متواصلة، منذ مساء الخميس 16 أيلول إلى ظهر السبت 18 أيلول 1982، في منطقة صبرا ومخيم شاتيلا للاجئين الفلسطينيين قرب العاصمة اللبنانية بيروت، قُدر عدد ضحاياها بـ3500 شهيد معظمهم فلسطينيون،
المجزرة نفذت بأوامر من الجزار آرائيل شارون –وزير جيش الاحتلال آنذاك- شخصياً، ومرت بصمت رهيب، ولم يتم محاكمة أي مسؤول عنها حتى اليوم، بعد مرور 27 عاماً على ارتكابها.
وهنا توقفت عن الحديث، بعد ان خيم صمت مطبق على ركاب السيارة، لا ادري ما السبب، هل تأثروا فعلا بما رويته عن المجزرة؟، أم انهم تعبوا من الطريق ولم تبق لهم طاقة للكلام؟ حقيقة لا أعلم ماذا كان يجول في خاطرهم تلك اللحظة. لكن ما اعلمه حقا انهم لا يحبون القراءة في المركبة أو غيرها..
ha