كوب الماء "الأغلى" في العالم
عماد فريج
"إن الماء مورد طبيعي محدود، وسلعة عامة أساسية للحياة والصحة. وحق الإنسان في الماء هو حق لا يمكن الاستغناء عنه للعيش عيشة كريمة"، وفقاً للجنة الأمم المتحدة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ولكن في ظل الاحتلال، فإن أبسط الحقوق الإنسانية تنتهك، دون حسيب أو رقيب.
ففي خربة الحديدية بالأغوار الشمالية، فإن سعر كوب المياه هو "الأغلى في العالم"، ويصل سعره إلى 32 شيقلا حوالي (9 دولارات)، رغم أن المنطقة تقع ضمن الحوض المائي الشرقي الأكبر في فلسطين، إلا أن إسرائيل تسيطر على 85% من مياهها؛ فيما يتحكم الفلسطينيون بـ15% المتبقية.
ويضطر الفلسطينيون الذين يقطنون المنطقة، إلى شراء صهاريج المياه بأسعار خيالية، وينقلونها لمسافة 30 كيلومترا، لتلبية احتياجاتهم واحتياجات ثروتهم الحيوانية، وغالبا ما يقوم جيش الاحتلال بملاحقة هذه الصهاريج، والاستيلاء عليها، وفرض غرامات مالية كبيرة، تحت حجج وذرائع أمنية واهية.
وخربة الحديدية، هي واحدة من ضمن 23 تجمعا فلسطينيا في الأغوار الشمالية، يعترف الاحتلال بتجمعين وتصنف مناطق "ب" هما العين البيضاء وبردلة، ولا يعترف بالباقي، علما أن هذه التجمعات موجودة قبل الاحتلال.
ويحيط في الأغوار 8 مستوطنات، و7 معسكرات لجيش الاحتلال، ويفصل أراضيها عن طوباس ونابلس حاجزان عسكريان للاحتلال هما: الحمرا وتياسير.
وقال مسؤول ملف الأغوار في محافظة طوباس معتز بشارات: إن "المستوطنات لا تبعد سوى أمتار عن التجمعات السكانية الفلسطينية، وتنعم بكافة مقومات الحياة"، موضحاً أن "خطوط المياه التي تغذي المستوطنات تمر من التجمعات السكانية الفلسطينية ويمنع الفلسطينيين من استخدام أي قطرة مياه واحدة".
وتشير الأرقام إلى أن معدل استهلاك المستوطن القاطن في الأغوار يبلغ 8 أضعاف ما يستهلكه المواطن الفلسطيني.
ولا تسمح سلطات الاحتلال بإعطاء تراخيص لحفر آبار مياه للفلسطينيين مهما كان عمقها؛ بينما تقوم شركة "ميكروت" (موزع المياه الإسرائيلي في الضفة الغربية) بحفر الآبار التي يصل بعضها إلى عمق 100 متر؛ بغية تزويد المستوطنات، والمزارع التابعة لها بالمياه طوال العام. وقد أدت هذه السياسة إلى تجفيف عشرات الآبار والينابيع المنتشرة في المنطقة بفعل هذه الآبار العميقة.
وأكد بشارات أن الاحتلال يسعى إلى تدمير أبسط مقومات الوجود الإنساني في المنطقة؛ بهدف الضغط على السكان من أجل الرحيل، خاصة أن هذه المنطقة تعتمد على الزراعة المروية كمصدر رزق أساسي لهم، مشيرا إلى أن سلطات الاحتلال دمرت مئات الأمتار من خطوط المياه، بادعاء أنها غير مرخصة في مناطق خاضعة للسيطرة الأمنية الإسرائيلية؛ ما سبب أزمة مائية خانقة.
وتشكّل الأغوار 75% من أراضي محافظة طوباس، ويسيطر الاحتلال على كافة أراضيها، رغم أنها أراض مملوكة بـ"الطابو" للفلسطينيين.
ولفت بشارات إلى أن الاحتلال يلتف حتى على القوانين في المحاكم الإسرائيلية للسيطرة على أراضي الأغوار، وأعلن التجمعات السكانية الفلسطينية مناطق عسكرية مغلقة لطرد السكان والاستيلاء عليها.
ولا يتوقف الأمر عند حرمان الفلسطينيين في الأغوار من المياه، بل يمنع الاحتلال إقامة غرفة صفية واحدة للأطفال، أو إنشاء عيادة صحية.
وقال: "الاحتلال يمنع التعليم والصحة هنّا، ويمنع تأهيل الطرق ليتمكن المواطن الفلسطيني من الوصول إلى بيته، خاصة في فصل الشتاء".
وأضاف: "الطلاب لا يستطيعون الوصول إلى مدارسهم في فصل الشتاء، كل شيء فلسطيني ممنوع في هذه المنطقة، ممنوع الوجود الفلسطيني".
من جانبه، قال المواطن محمد علي بني عودة، من سكان خربة الحديدية، إن الخربة تتعرض لعميات هدم مستمرة من قبل الاحتلال، تطال خيمهم ومساكنهم وحظائر الماشية، كما يمنعهم الاحتلال من فلاحة الأرض وزراعتها ويصادرون جراراتهم الزراعية.
وأضاف: "يمنعونا حتى من إزالة روث الماشية وتنظيف الحظائر، والموضوع بحاجة لتنسيق حيث يسمحون لنا لساعات معدودة فقط أحيانا. الروث يتراكم في محيط مساكننا أشهر وسنوات ولا نستطيع تنظيفه وإزالته".
وروى بني عودة تفاصيل الرحلة اليومية الصعبة لطلاب الخربة للوصول إلى مدارسهم، حيث غالبية الطرق شبه ممنوعة من الاحتلال، وحافلة التربية والتعليم لا تصل إلى الخربة، حيث يضطر الأهالي إلى إيصال الطلاب إلى منطقة قريبة عبر عربة يجرّها "تراكتور".
ويستذكر بني عودة كيف انقلبت قبل سنوات عربة تراكتور تقل 11 طفلاً في طريقهم للمدرسة، من شدة الأمطار والرياح ووعورة الطريق، مما أدى إلى إصابة الأطفال بجروح مختلفة. وقال: "لولا لطف الله لحدثت كارثة".
وأضاف: "نريد لأولادنا أن يستمروا في الدراسة، ونطالب كافة الجهات مساعدتنا في تأهيل طريق الخربة".
وللوصول إلى الخدمات الصحية، يضطر سكان خربة الحديدية لقطع مسافة 25 كيلومتراً للوصول إلى المستشفى في مدينة طوباس لتلقي العلاج.
وأشار بني عودة إلى أن إحدى نساء الخربة لم تتمكن من الوصول إلى المستشفى في طوباس عندما جاءها ألم المخاض، وفقدت مولودها، وأجريت لها عملية لإزالة الرحم، ومواطن آخر توفي من قرصة نحلة بعد تأخر حصوله على الرعاية الصحية.
وكان رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو أعلن عن نيته فرض السيادة الإسرائيلية على منطقة الأغوار وشمال البحر الميت، في حال نجح بترؤس الحكومة الإسرائيلية المقبلة.
وقال عمر العارف، أحد وجهاء خربة الحديدية: "لم يبق انتهاك إلا وتعرضنا له، قتلوا أولادنا وهدموا بيوتنا، ولن نستسلم، وقرار نتنياهو ضم الأغوار باطل فنحن موجودون قبل الاحتلال في هذه الأرض وسنعيش ونموت هنا ولن نرحل".
ومع حلول فصل الشتاء، تزداد معاناة السكان، الذين يصبحون عرضة للفيضانات والأمطار الغزيرة في أي لحظة، في ظل وعورة الطرق. كما تنهدم الخيام على رؤوس ساكنيها بفعل شدة الأمطار والرياح.
ويطالب السكان الاتحاد الأوروبي والمؤسسات الدولية بتعزيز صمودهم في المنطقة من خلال مشاريع فعالة، وتوفير للخدمات الأساسية للعيش الكريم، بالإضافة إلى الضغط على حكومة الاحتلال لوقف انتهاكاتها اليومية بحقهم.
وقالت مديرة مكتب المفوضية الأوروبية للمساعدات الإنسانية والحماية المدنية (إيكو) في القدس، ميشيل شيشيك، إن الاتحاد الأوروبي يحاول الاستجابة لاحتياجات السكان الفلسطينيين في المنطقة المسماة "ج"، بهدف تطوير المنطقة ودعم الوجود الفلسطيني فيها.
ولفتت إلى أن الاتحاد الأوروبي التزم في السنوات الثلاث الماضية بتقديم نحو 20 مليون يورو لدعم التنمية الاجتماعية الاقتصادية الفلسطينية في المنطقة المسماة "ج"، في حين قدّم حوالي 23 مليون يورو في صورة مساعدات إنسانية من خلال مكتب المفوضية الأوروبية للمساعدات الإنسانية والحماية المدنية (إيكو).