محمد الدغليس.. فنان سلفيت ومهندسها
عُلا موقدي
في "ديوان بلدية سلفيت" العريق، الذي مر على بنائه ما يزيد عن المائة عام، نثر الفنان الفلسطيني محمد الدغليس (71 عاما) لوحاته على الجدران الحجرية المقوسة داخل المبنى، الذي أعيد ترميمه هذا العام.
تعتبر مدينة سلفيت مدرج طفولة الدغليس، عاش فيها بداية حياته حتى سن العشرين، وأكمل بقية حياته في عمّان، لكنه يراها بأنها منبع تاريخه ووحيه الفني نظرا لطبيعتها الريفية.
يقول الدغليس لـ"وفا": "بداياتي الأولى في الفن كانت إشارة بسيطة من إنسانة عزيزة على قلبي، اسمها "عزيزة" وهي خالتي، كانت تقول الشعر وتؤلف الأغاني الشعبية رغم أنها غير متعلمة، وكانت تطرز وتحيك الملابس".
ويضيف، "في أحد الأيام، كنا نقطف الزيتون وكانت معنا قطعة ورقية "كرتونة"، جلبت خالتي عزيزة فحمة من موقدة النار ورسمت عليها شكل بنت بثوب مطرز، احتفظت بها وكنت في حينها طفلا صغيرا أتعامل مع الأشياء بإحساسي، هذه الحادثة التي جعلتني أفكر في التعبير عن نفسي ومكنوناتي الداخلية بواسطة القلم والورقة".
وعن طقوسه الخاصة في الرسم، يقول الدغليس: "أرسم على ورق الجريدة، وورق المحارم الذي يوضع في المطعم، أرسم في كل وقت وفي أي وقت".
ويبين، "منذ صغري، شعرت باهتمام المعلمين برسوماتي، ورسمت ذات مرة قرنفلة وبركة مياه تحيطها الأشجار، تم وضعها على حائط بغرفة مدير المدرسة، فكنت فخورا بها".
وأكمل الدغليس: "عندما انهيت مرحلة الثانوية العامة "التوجيهي"، رغبت في دراسة الفنون الجميلة، أرسلت لوالدي الذي كان يسكن حينها في البرازيل أحدثه عن رغبتي بتعلم الفنون الجميلة، فقال لي يا بني، أعلم أن الفنانين يصبحون أغنياء بعد مماتهم، وأنا أريدك أن تغنى في حياتك، أبحث عن مهنة أخرى تطعمك الخبز".
وتابع: "درست الهندسة المعمارية، وكان سبب دراستي أنه مر ذات يوم أحد المعماريين القدماء وكان يلبس الطربوش على بلدية سلفيت، فرأى أنني رسمت قبة الصخرة بقلم حبر ناشف ولصقتها على الحائط فسأل من رسمها، وقال لي: أنت مبدع، عندما تكبر أُدرس الهندسة المعمارية".
نجح الدغليس في الكثير من المشاريع المعمارية على مستوى الوطن العربي، ومع ذلك بقيت دراسة الفنون مُراده، ليلتحق بعد 12 عاماً بمعهد للفنون الجميلة.
عودة إلى ذكرياته في سلفيت، يقول الدغليس: "بقيت سلفيت البلد التي تداعب مشاعري ووجداني، ترعرت في بيئة فلاحة ومتواضعة الإمكانيات، زرت ديوان بلدية سلفيت صدفة قبل 20 عاماً، وتمنيت أن يكون معرضي فيه رغم عدم جاهزيته، هذا المكان عريق، درس فيه الآباء قبل العام 1922 وكان بلدية ومركز للحاكم في كل المراحل، وهو مبني بطريقة العقود الاسلامية التي تبنى بالأيدي ولم يدخل فيها أي نوع من المكننة تذكرنا بعراقة الانسان الفلسطيني، وأنا فخور أن لوحاتي وضعت مباشرة على جدران حجرية نحتتها يوما أيادي كبارنا".
وذكر "أثناء مشاركتي في معرض فني بالسويد عرضت لوحات بها عقود اسلامية أمام المتلقين لتبيان كم نحن شعب عريق ولنا تاريخنا وحضارتنا التي شاركت في بناء الحضارة الانسانية. العديد من المباني في سلفيت بحاجة لإعادة ترميم وتجهيزها ليصبح في سلفيت مسار سياحي وترفيهي واقامة فعاليات ثقافية في هذه المباني التراثية".
وتابع: "سلفيت مدينة ضاربة في أعماق التاريخ نستدل على ذلك من وجود المغاير والمقابر الداخلة في الصخور فيها، ولدي اليقين أن أسفل هذه البلدة هناك بلدة أخرى لكنها لم تأخذ حقها في البحث والتنقيب لمعرفة تاريخها".
وخدم الدغليس بلدية سلفيت وكان مهندساً فيها بين الأعوام 1974- 1977 مقابل حصوله على لم شمل، ورسم المخطط الهيكلي لسلفيت، الذي على أساسه ازدهرت وتوسعت.
وعن الموازاة بين الهندسة والفن، يقول الدغليس: "استمريت في عملي كمهندس معماري وبقيت اتابع الفن لأن روحي معلقة به وبالثقافة بشكل عام، أحب القراءة في كل المجالات حتى يصبح لدي القدرة على استنباط حياتي والطريقة التي أريد أن أعيشها. أراهن أن الفنون ضرورة في حياة الانسان، تجعله ذات رهافة وحس وتجعله قادر على التعبير عن نفسه بحرية مطلقة وعن مكنوناته دون ايذاء الآخرين".
تنوعت أعمال الدغليس، ووصلت للعديد من دول العالم، وشارك في أكثر من 20 معرضاً جماعياً وشخصياً في مناطق متعددة في الأردن والسعودية والسويد منذ العام 1985. وقدم المحاضرات والندوات عن الفنون التشكيلية والعمارة منذ التسعينيات فاز بالمرتبة الأولى بعدد من المسابقات.
ومن أعماله اللافتة لوحات خاصة عن العين القبلية في المدينة، تظهر فيها النساء أثناء تعبئة المياه في أوان فخارية "الجرار"، كذلك لوحة عن سلفيت وكأنها ايقونة تحيط بها الجبال وتنتشر على سفوحها أشجار الزيتون، بالإضافة الى لوحات الزهور البرية، واللوحات التجريدية.