"كورونا" البليغ!!
كتب: رئيس تحرير صحيفة "الحياة الجديدة"
لعل أهم وأبرز ما يكشف عنه فيروس "كورونا" اليوم، للبشرية كلها، أنه ما من دم أزرق على كوكب الأرض، والعنصرية تاليا، ليست أكثر من فكرة مريضة بالوهم والغطرسة، ومهما تسلحت فإنها في المحصلة، لا تأكل غير أصحابها، تماما كما حدث مع النازية.
كما أن "كورونا" يكشف، وسنقول له شكرا على ذلك، أن ترسانات العسكر الحربية ومهما كانت أسلحتها تقليدية أو نووية، فإنها ليست هي من يحقق لأصحابها الأمن والأمان، وإنما التواضع الأخلاقي، بحكمته المعرفية، التي ترى السلامة في عافية النفس البشرية، بخلاصها من الأوهام النظرية، واحترامها لمكونات الحياة والطبيعة ومقوماتها، وإدراكها أن القوة المطلقة، لن تكون بشرية على الإطلاق، بدلالة أن الرصاصة اليوم، ليس بوسعها هزيمة "الكورونا" ولا أية قذيفة حديد حتى لو كانت نووية ..!! وليس هذا فحسب، وإنما أبعد من ذلك، حيث يكشف "الكورونا" كم هو هش عالم اليوم،وأن مصدر هشاشته يكمن في السياسات الاستعلائية والعنصرية والعدوانية، وكذلك السياسات الاستهلاكية التي تقدس السلعة (...!!) وتجعل منها قيمة كبرى، وتغدق على ترويجها ملايين الدولارات، فيما لاتنفق شيئا لمحاربة المجاعات الغذائية، والأخلاقية، حيث التهتك، والتسطيح، والانحطاط الفني والثقافي قد بلغ ذروته في هذا العصر..!! وثمة طبيبة على مواقع التواصل الاجتماعي كتبت "العالم الذي يمنح ملايين الدولارات للاعبي كرة القدم، فيما يقدم راتبا لا يتجاوز الألف وثلاثمئة "يورو" لطبيبة في مختبر علمي، يستحق ما يجري له "وبسخرية حارقة ختمت تعليقها " دعوا رونالدو إذن يحل لكم المشكلة" ...!!! وفي عالمنا العربي، ومنذ أن اطاح الانفتاح المغربن، برقيب المصنفات الغنائية والفنية، توغلت أعمال التسطيح والقبح والتهتك، في نص الأغنية، وشريط الأفلام السينمائية ...!!!
جدران الفصل العنصرية، هذه التي مدها الاحتلال الإسرائيلي، كمثل أفعى فوق أراضي بلادنا، وتلك التي يريدها الرئيس الأميركي دونالد ترامب على حدود بلاده مع المكسيك، هذه الجدران لا تبدو مع جائحة "الكورونا" سوى أنها جدران العبث الأخلاقي والسياسي العنصري، بمطلق أوهامه، وها هي الآن لاتمنع، وليس بوسعها أن تمنع، ما يهدد حياة القابعين في أحضانها حقا ..!! لا بل إن الأهم من ذلك أن الفلسطينيين الذين تحاربهم هذه الجدران، باتوا مثالا بإجراءاتهم الإنسانية والحضارية والمعرفية والطبية، في تصديهم لجائحة "الكورونا" ومثالا حتى باستعدادهم للتنسيق مع محتليهم، لدحر هذه الجائحة، وقد أثبتت إجراءاتهم نجاعة لافتة، وثمة في إسرائيل من يطالب حكومته أن تحذو حذو السلطة الوطنية الفلسطينية في هذا الإطار، ويؤكد الفلسطينيون هذا الاستعداد، لأن لا جدران عنصرية في وعيهم وثقافتهم، وتطلعهم الإنساني، وبهذه الحقيقة يكشف الكورونا كذلك أن اصحاب المشروع الوطني التحرري والحضاري، مشروع فلسطين الحق والكرامة والعدل والسلام، يظلون هم الأقدر على تأمين الحياة أن تكون آمنة ومستقرة ومزدهرة .
لقد تفوقت إجراءات فلسطين لمحاصرة الكورونا والحد من تفشيه، حتى الآن على إجراءات دول كبرى، ولعل أبرز ما تتفوق به فلسطين الآن هو هذا التعاضد والتكافل الاجتماعي، والتعامل الحيوي مع الأزمة التي يخلفها "الكورونا" حيث لا غياب للخدمات العامة، ولا ازدحام في أسواق السلع الاستهلاكية، ولا تذمر أبدا من حالة الطوارئ .
وسيظل للكورونا ما يكشفه قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، وسيلفظها سريعا كلما أدرك العالم ما يقوله هذا الفيروس من حقائق تتعلق بمعنى عالم اليوم وواقعه، عالم فوضى السياسات العدوانية من أجل أن يتغير، ولهذا "كورونا، هو بحق صوت للتيقظ الإنساني قبل فوات الأوان.