الأمانة رُدَّت للأسير المحرر الريماوي بعد 19 عاماً
رام الله- إيهاب الريماوي
احتشد المهنئون فرحين بعودته، عائلته وأصدقاؤه وأبناء بلدته، ولكنه كان يبحث بين الجموع عن شخص بعينه، وحين رآه اقترب منه وتصافحا وقال له: "لك عندي أمانة. وأرجو أن تسامحني بسبب تأخري عن إعطاءك إياها، ولكني أعتقد أنك نسيتها تماماً".
تلك الأمانة عمرها 19 عاماً، تحديداً منذ عصر يوم الخميس، الخامس من تموز/يوليو عام 2001، عندما كان الأسير المحرر إشراق الريماوي من بلدة بيت ريما شمال غرب رام الله، وصديقاه مقداد الريماوي والراحل موفق رحيمه يعملون في ورشة بناءٍ قرب مصلحة المياه بمدينة رام الله، يومها أعطى مقداد لإشراق هاتفه حتى يجري مكالمة هاتفية مع أحد الأصدقاء.
"في صباح ذلك اليوم كنا ثلاثتنا نجلس على درجات بيت مهجور وسط بيت ريما ولم يكن نملك سوى 60 شيقلاً تمكننا من التوجه إلى عملنا في رام الله ولكن دون عودة. كنا ندفع 20 شيقلاً عن كل راكب بسبب الطرق الالتفافية الطويلة والإغلاق حول المدينة. قررنا الذهاب إلى عملنا وهناك سنعمل على تدبر الأمر"، قال الريماوي.
بحلول ساعات العصيرة، ولما انتهوا من عملهم، قرر إشراق أن يذهب إلى أحد الأشخاص لاستلاف مبلغ يمكنه وأصدقاؤه من العودة إلى البلدة، حينها طلب من مقداد هاتفه "الموتورولا" لإجراء مكالمة مع المدين.
"أعطيته هاتفي الذي اشتريته حينها بـ 900 شيقل، وأخذت هاتفه وذهبت إلى منطقة كفر عقب، من أجل استدانة المبلغ، ولكن في طريق ذهابي اعترضت دورية عسكرية إسرائيلية المركبة التي كنت فيها، وأرغم الركاب على الترجل منها، وبعد التدقيق في الهويات كبلوني واقتادوني في الدورية العسكرية إلى زنازين "بيت إيل"، ومكثت هناك ليلة واحدة ثم جرى تحويلي للتحقيق في مركز المسكوبية بالقدس.
أُخضع إشراق لتحقيق عسكري مدة 65 يوماً، ذاق فيها صنوف العذاب، وحرم من النوم عدة أيام.
"كان النوم يغلبني أحياناً أثناء التحقيق الذي تستمر جلساته لساعات طويلة وأحياناً لأيام متتالية دون انقطاع ويتناوب عليها عدة محققين، حتى لا أنهار تماما كان يشدني المحقق من مقدمة رأسي وأنا مُكبل اليدين والقدمين ويأخذني إلى الدش، ويبقيني تحت المياه التي تتدفق بقوة عدة دقائق ثم يعيدني مجدداً، وهكذا".
هدم الاحتلال منزل إشراق وعائلته المكون من طبقتين فجر يوم الأربعاء، الرابع والعشرين من تشرين أول/ أكتوبر عام 2001، ويومها استشهد في بيت ريما 5 من أفراد الأمن الوطني والشرطة، في عدوان واسع هدُم خلاله منزلان آخران للأسيرين بلال البرغوثي وباسل الأسمر.
لما اعتقل إشراق ترك خلفه زوجة ترعى ثلاثة أطفال، ابنتين وولدا كان يخطو أولى خطواته، وعندما خرج وجد الزهرتين قد تزوجتا، والطفل رحل مبكراً بعمر 20 عاماً قبل 5 سنوات.
اجتمع إشراق مع أحمد عام 2013 في سجن عوفر بعد اعتقال الأخير والحكم عليه بالسجن الإداري، ولما كان الأسرى الإداريون يمنعون من المطالبة بالانتقال إلى أي من السجون؛ سعى إشراق للانتقال عند نجله، وبعد مماطلة طويلة رضخت إدارة سجون الاحتلال، واجتمعا سوية لأول مرة منذ 12 عاماً.
أطلق إشراق على أحمد عند وفاته لقب "أحمد العربي"، بسبب مرارة العيش التي ذاقها في فترة حياته القصيرة، حيث اعتقل قبل أن يتجاوز الـ17 عاماً وخاض إضراباً عن الطعام مع الأسرى عام 2014 وكان أصغرهم، وعند تحرره قرر أن يفي بوعده لوالده بالالتحاق بجامعة بيرزيت لدراسة الصحافة، لكن الموت خطفه قبل أيام من انطلاق الفصل الدراسي.
تحدث إشراق بحزن على فراق نجله أحمد، الذي توفي عام 2015 بعد أن سقط عن سطح منزل جده في قرية عبوين قرب رام الله، "هذه الأحاسيس حيّة في قلبي لا أريد أن أبوح بأكثر من ذلك. هو أمانة لله واستعادها".
عندما حانت لحظة الحرية صباح أمس الأربعاء، أخبرت إدارة السجون إشراق بأن لديه حاجيات في صندوق الأمانات. لم يعتقد أن هاتف صديقه مقداد سيكون بينها. سرّه ذلك، لأنه سيتمكن من أن يؤدي الأمانة لصاحبها ولو بعد 19 عاماً.