أبو عمار "الإعلامي اللّماح"
سامي أبو سالم
يُحيي شعبنا الفلسطيني في هذه الأيام الذكرى الـ16 لاستشهاد الرئيس المناضل ياسر عرفات في فعاليات رسمية وجماهيرية. وفي كل عام تبرز صفحات جديدة من تاريخ وشخصية الزعيم الذي أختُلف معه ولم يُختلف عليه.
التصق الرئيس عرفات (أبو عمار)، بالجماهير على اختلاف اهتماماتها و"طبقاتها"، فترك بصمة في كل بيدر. كما قال مدير عام وزارة الثقافة بغزة، الفنان التشكيلي فايز السرساوي، فقد كان أبو عمار ذو شخصية تترك أثرا في كل من يقترب منه، سواء على الصعيد السياسي أو الإنساني.
"كان الفنان يراه فنانا والسياسي يراه سياسيا والصحفي يراه إعلاميا، التصق بالجماهير بشكل ساحر لن يتكرر،" أضاف السرساوي.
وعلى الصعيد الاعلامي تحدثت "وفا" لبعض الشخصيات التي كانت قريبة منه وكان لها دور اعلامي بجانبه أو شهود عيان على مرحلة ما، على رأسهم الروائي والاعلامي زياد عبد الفتاح، الذي تقلد عدة مناصب اعلامية أبرزها رئيس وكالة الأنباء الفلسطينية "وفا" منذ تأسيسها سنة 1972 حتى 2005.
أولوية:
وقال زياد عبد الفتاح، إن الإعلام كان يمثل الأولوية "الثالثة والأولى" في حياة الرئيس عرفات، فالقادة الأوائل خرجوا من رحم اللجوء والتهميش وأسسوا حركة فتح لإعادة الأمور إلى نصابها أو على الأقل أن يحافظوا على الهوية والقضية.
ولن تستطيع القيادة تحقيق ذلك بالإعلام فقط، فكان وفق الممكن المتاح الاعتماد على "أولا العمل الفدائي، وثانيا التمويل، وثالثا ثم أولا الاعلام".
وكانت القيادة - على رأسها أبو عمار- تعي أنه حتى لو تم تنفيذ عمليات مسلحة كبرى ضد الاحتلال فان قيمتها لا تساوي شيئا دون الاعلام، فأنشأت ماكينتها الاعلامية "الاعلام الفلسطيني الموحد"، عام 1972 المتمثل في وكالة الأنباء الفلسطينية "وفا" برئاسة زياد عبد الفتاح، ومجلة "فلسطين الثورة" وصوت فلسطين برئاسة الطيب عبد الرحيم، ولو ساعدته الأرض لأسس تلفزيونا.
ووفقا لمركز المعلومات الوطني فقد صدر العدد الأول "فلسطين الثورة"، يوم 28 نيسان (ابريل)1972، لتحقق منظمة التحرير "أحد أهم تطلعاتها نحو انجاز وحدة النشاط الإعلامي الفلسطيني بهدف المساهمة في صيانة الكيانية الفلسطينية الناشئة، والحد من التبعية الإعلامية والثقافية"، وأوكلت مهمة رئاسة تحريرها إلى كمال ناصر، الذي كان آنذاك الناطق الرسمي باسم اللجنة التنفيذية للمنظمة. واستشهد ناصر في عملية "الفردان" الشهيرة 1973.
وكان هناك جهود اعلامية سبقت ذلك عبر الإذاعات والاتصال بوكالات أنباء محلية ودولية وبصحفيين عرب وأجانب في بيروت والقاهرة وعمان وغيرهم من العواصم، مثل ما جرى في معركة الكرامة (1968) وغيرها.
وهنا أشار المخرج الاعلامي، زعل أبو رقطي، أن قيادة "فتح" وعلى رأسها ياسر عرفات كرست جهدا كبيرا لإيصال صوتها للجماهير، وكان أبو عمار يتعامل مع الصحفيين في الثورة الفلسطينية على أنهم جيش ثان جنبا إلى جنب مع الجيش الأول.
وبعد اتفاق "أوسلو" (1993) أقيمت السلطة الفلسطينية في غزة وأريحا وأنشأت السلطة عدة مؤسسات إعلامية كتلفزيون وفضائية فلسطين، وصوت فلسطين، وافتتاح مكاتب لوكالة "وفا"، وأسست الهيئة العامة للاستعلامات وغيرها من المؤسسات الاعلامية.
مواكبة التطور:
"لم يكن آنذاك إنترنت ولا وسائل تواصل اجتماعي فكان تركيز الرئيس عرفات على الاذاعات، أبرزها درعا، فهي الأكثر انتشارا آنذاك، والصحف والمجلات،" قال أبو رقطي (72 عاما) أحد الاعلاميين الأوائل في الثورة الفلسطينية.
وكان صوت فلسطين التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية قد انطلق في الأول من مارس 1965، وفقا للموسوعة الفلسطينية على الشبكة العنكبوتية.
ووفقا لعبد الفتاح (82 عاما)، لم يكن أبو عمار يحرص على النشر فقط بل ومواكبة التطور الاعلامي، فلم يكن يفكر مرتين قبل أن يوافق على مقترحات كثيرة تخص تعزيز وتطوير الجانب الاعلامي في الثورة الفلسطينية، ويذكر أنه تقدم سنة 1980 باقتراح لتأسيس "مركز التوثيق الفلسطيني" ليتبع وكالة "وفا" فوافق أبو عمار فورا وبدأ المركز عمله برئاسة أحمد أبو مطر، بأرشفة آلاف الوثائق واستخدام "الميكروفيلم والميكروفيش"، وأصدر الأرشيف أول مجلة حملت اسم "الوقائع" قُبيل العدوان على بيروت 1982.
وحول مواكبة التطور يقول كامل حمادة (61 عاما)، من الطواقم الهندسية في تلفزيون فلسطين بغزة، إن التلفزيون كان في طور التأسيس، فكان لا يرفض أي طلب يُقدم له من شراء معدات حديثة ويسأل بشكل يومي عن آخر التطورات.
وأضاف حمادة، الذي عمل في التلفزيون منذ التأسيس (1994) إن الرئيس عرفات كان دائم التواصل مع هشام مكي، المشرف العام آنذاك، ودائم السؤال عن التحديثات في التلفزيون وتدريب الطواقم.
توازن:
وهنا تحفظ عبد الفتاح عن الموافقة على نشر بعض الوقائع لأنها "ربما تعكر العلاقات مع بعض الدول" لكنه أشار إلى أن المهارة السياسية لأبي عمار لا تنفصل عن الاعلامية، "كان حذرا وحريصا على الحفاظ على التوازنات ومسك العصا من الوسط، لذا كان الخطاب الاعلامي حساس جدا فأي كلمة ربما تسبب تدهورا مع دولة عربية أو أجنبية."
ويشير الاعلامي زعل أبو رقطي إلى أن الرئيس عرفات، وبعد الخروج من بيروت، كان قد أمر بإعادة طباعة أحد أعداد "فلسطين الثورة" بعد تعديل في افتتاحيتها التي خطّها أحمد عبد الرحمن، لأنها كانت تمس إحدى الدول العربية وتسبب في تعكير لعبة التوازنات، "كان حريصا على كل حرف، ثائر وسياسي واعلامي نبيه، والاعلام لا ينفصل عن الاثنتين."
الاعلام الغربي:
وفيما يتعلق باعتقاد أن قيادة (م. ت. ف) لم تلتفت بشكل كاف للإعلام الغربي، قال عبد الفتاح إن هذا الاعتقاد "غير دقيق"، مشيرا الى أن الرئيس أبو عمار- والقيادة بشكل عام- لم يغفلوا عن هذه النقطة، وكان من أبرز القائمين على الاتصال بالإعلام الغربي صلاح التعمري الذي كان يدير أشبه بـ"خلية الاعلام الخارجي للأجانب"، ومحمود اللبدي الذي كان ملاصقا لأبي عمار.
"كان محمود اللبدي اعلاميا وبطلا يجيد الانجليزية والفرنسية، لقد استطاع أن يعقد مؤتمرا صحفيا لأبي عمار وجمع الصحفيين الأجانب في حي الفكهاني المحروق في عدوان 82"، قال عبد الفتاح.
وحول الاعلام الأجنبي قال أبو رقطي، لوكالة "وفا" إن الرئيس كان مواظبا لما تتناقله وسائل الاعلام الغربية ويقرأ بشكل يومي ترجمات حول ما يتعلق بالقضية الفلسطينية.
ومن المواقف التي لها علاقة بمخاطبة الغرب يذكر عبد الفتاح أنه في عام 1974 كان الرئيس عرفات سيلقي خطابا في الأمم المتحدة، لكنه كان مهموما ماذا سيفعل وكيف سينفذ هذه المهمة، فاستدعى فلسطينيين وعرب وأجانب لتدارس كيف سيذهب وماذا سيقول.
"استعان بإدوارد سعيد، وابراهيم أبو لغد، وخبراء عرب وأساتذة جامعيين على دراية بالإعلام والثقافة الغربيين، ودرس كل فكرة وكل حرف، ثم استدعى محمود درويش لصياغة الخطاب ودراسته قبل الصعود إلى منصة الأمم المتحدة،" كما قال عبد الفتاح.
وهنا لفَت حمادة أن الرئيس عرفات كان يصدر أوامره بفتح بث تلفزيون فلسطين (بدون شعار) لأي قناة، سيما الغربية، ترغب في نقل ما يبثه التلفزيون سيما في المؤتمرات المهمة والمناسبات على رأسها احتفالات عيد الميلاد من أريحا أو رام الله أو غزة.
تفاصيل:
حتى على صعيد المظهر كان أبو عمار يصغى لمستشاريه، فشكل الكوفية التي اشتهر بها لم تأت عبثا، بل بعد جلسة خاصة بترتيب "الهندام" الذي أشار عليه بعض المقربين منه، فثوريته وتواضعه لا تلغيان أن يظهر بمظهر أفضل، وأخذ أبو عمار بالنصيحة وبشكل الكوفية التي حاكت خارطة فلسطين التاريخية، لكنه لم يتخلّ عن البزة العسكرية، وفقا لعبد الفتاح.
ويذكر حمادة أن الرئيس عرفات كان يحرص على ظهور المذيعين بشكل لائق، ففي احدى النشرات ظهر مذيع على الشاشة بشعر "طويل" فأرسل في طلبه وهمز له بأسلوب فكاهي: "أنت تغيظني لأنني أصلع؟" وضحك الاثنان، فتوجه المذيع فورا وقصّر شعره.
وحول "التفاصيل" أشار أبو رقطي الى أن متابعة الرئيس للإعلام كنت تصدم العاملين في الاعلام الموحد قبل اقامة السلطة الفلسطينية أو بعدها، فيذكر أنه كان على الهواء في مقر الاذاعة برفقة أحد العاملين غير الصحفيين بأريحا أواسط التسعينات، وتلقت الاذاعة اتصالا هاتفيا "تحت الهواء"، فكان المتحدث الرئيس عرفات، اضطر أبو رقطي للقيام من خلف لاقط الصوت "الميكروفون" والحديث مع الرئيس عرفات في أمر يخص الاذاعة.
رأي الآخر:
ومن المفاصل الاعلامية التي "التقطها" الرئيس أبو عمار هي جريدة "المعركة"، فخلال عدوان بيروت (1982) قرر اعلاميون ومثقفون المشاركة في الدفاع عن بيروت وعن الثورة، فمنهم من انخرط في العمل المسلح ومنهم من شارك في دعم لوجستي أو غير ذلك، وكان جزء مهم قرار المشاركة بطريقته عبر اصدار "المعركة" وكانت تنقل أخبار وبطولات صمود الفدائيين الفلسطينيين والعرب أمام العدوان، فوافق فورا على اصدارها وشارك فيها أسماء لامعة فلسطينية وعربية، منهم: محمود درويش، وعز الدين المناصرة، ومعين بسيسو، وسعدي يوسف، وجليل حيدر، وخليل حاوي.
ولم يخش أبو عمار المواقف الاعلامية المختلفة معه، وهذه ثقة ومهارة ليست باليسيرة، وهنا يذكر عبد الفتاح، أحد المعاونين الملاصقين للرئيس عرفات، قصة مجلة "رصيف" التي صدرت بتمويل منه وأشرف عليها مناوئون له.
فبينما كان عبد الفتاح يوزع جريدة "المعركة" اعترضه اثنان "رسمي أبو علي والشاعر علي فودة" وطلبا منه إرسال رسالة لياسر عرفات أنهم بصدد إصدار جريدة "رصيف" وعليه "بصيغة الأمر" تمويلها ولا يتدخل فيها.
كان هاذان الكاتبان من جماعة تُعرف باسم "رصيف" نسبة إلى مقهى في بيروت كانا يلتقيان- وغيرهم- فيه وحمل نفس الاسم، وكان أبو عمار يعرف من يتجالس هناك ويعرف أنهم ذوو ألسن سليطة لا يسلم منه أحد ودائما يتهجمون عليه.
الطريف أن أبا عمار وافق على تمويل "رصيف" على قاعدة "فليكتبوا ما يشاؤوا فليس هناك أسوأ من الأوضاع التي نحن فيها الآن ولن يزيدوا الأمر سوءا وعلى أي حال لن يصطفوا بجانب إسرائيل".
وبالفعل صدرت "رصيف" بتمويل من أبي عمار، واستشهد الشاعر فودة في قصف إسرائيلي وهو يوزع العدد الثالث عشر(تقريبا)، وفقا لرواية مؤسس ورئيس "وفا" الأسبق، "لقد كان أبو عمار يلتقط الكلمات والمواقف... كان إعلاميا لقّاطا ولماحا".
ومن المواقف التي يذكرها كامل حمادة، قال إن الاعلامي حسن الكاشف تقدم للرئيس عرفات باقتراح برنامج "وجها لوجه" بيد أن بعض المستشارين نصحوه بالرفض خوفا من انتقادات، إلا أنه وافق على ذلك ولم يخش انتقاد الجمهور أو الساسة على الهواء مباشرة من غزة وأريحا وغيرهما.
ومن أكثر اللحظات الاعلامية التي كان يفرح فيها الرئيس عرفات - والحديث لحمادة - هو تلقي اتصالات على الهواء من فلسطينيي الشتات. "عندما يرِد اتصال هاتفي من الشتات، يسعد كثيرا ويشعر بالفخر، يرى أن الفلسطينيين كلهم في بيت واحد، وكأن العودة تحققت."