مريم سلامة.. أم أطفال الحجارة والمطاردين
يامن نوباني
.......
قبل عدة سنوات، شدتني صورة لعجوز فلسطينية تتعارك مع أحد جنود الاحتلال، في داخل كتاب "الانتفاضة" الصادر عن لوتس.. مجلة اتحاد كتاب آسيا وافريقيا، ولاحقا على غلاف العدد الثامن عشر من مجلة عبير، الصادر في آذار 1988.
وبعد سنوات من محاولة معرفة صاحبة المشهد، تبين أنها الحاجة "مريم سلامة"، اللاجئة من قرية "النعاني" 8 كيلومترات جنوب غرب الرملة، هناك، في قرية البساتين والحبوب والبطيخ والحمضيات، ولدت مريم عام 1944، وهنا في مخيم الأمعري، على ذات التراب وحلم العودة، رحلت عام 2019.
لاحقا، عجت النشرات الاخبارية وأغلفة المجلات وصفحات الجرائد والكتب بصور الانتفاضة، وبقيت صور سلامة واحدة من أقوى صور التعبير عن الثورة الفلسطينية في وجه المحتل الاسرائيلي.
الزمان بدايات العام 1988، المكان مدخل مخيم الأمعري قرب العمارة الحمراء، رأت سلامة جنود الاحتلال يقومون بضرب واعتقال أحد فتية الحجارة، فقامت بالهجوم على الجنود والتعارك مع الجندي الذي يمسك الفتى وتخليصه من بين يديه، قبل أن يبدأ الجنود بضربها بالهروات، حيث أصيبت وقتها بكسور ورضوض في كتفها وخاصرتها.
رولا ابنة مريم قالت لـ"وفا": خرجت أمي من النكبة وهي غاضبة على كل ما يتعلق بالاحتلال، ربت بداخلها القوة وعدم خشية الجنود، وعلمتنا ذلك، حتى أنها كانت تطلب منا، نحن بناتها وشبابها، أن نقوم برشق جيبات الاحتلال بالحجارة في بدايات الانتفاضة.
عرفت سلامة في مخيم الأمعري ومحيطه، بحاضنة المطاردين.. فكانت تقدم العشاء والملابس للمطادرين، حتى أولئك الذين لا تعرفهم، رغم تعرض بيتها أكثر من مرة للمداهمة وإلقاء قنابل الصوت والغاز بداخله وتحطيم محتوياته.
وعن دور سلامة أضافت رولا: كانت والدتي تخبئ في بيتنا وحديقته، لباس الجيش الشعبي، وأسلحته البيضاء كالسيوف والعصي والخناجر والبيانات. وفي مرحلة التحول للاكتفاء الذاتي ومقاطعة منتجات الاحتلال، حولت الأرض المحيطة ببيتنا إلى مساحة خضراء، مزروعة بالكثير خاصة الفاصولياء.
وتابعت: كانت أمي جريئة للغاية، تخرج في ظل منع التجوال، دون أن تهاب نداءات الجيبات بعدم التنقل، وتقوم بجولات في بيوت المخيم المحتاجة، وتأتي لبيتنا بمن لا بيت لهم، تقدم لهم ما أمكن.
تهجرت أمي مع أهلها من النعاني، إلى رام الله، حيث أقاموا مدة من الوقت في خيام قرب مدرسة الفرندز، ثم انتقلوا إلى أريحا، ثم إلى الأردن، ليستقروا في مخيم الوحدات، بعدها تزوجت والدتي عام 1958، وعادت للعيش في مخيم الأمعري.
وحول حياة سلامة قبل النكبة، تقول رولا: كان والدها يعمل في البيارات، وينتمي لعائلة تمتلك أراضي شاسعة، استشهد جدها عبد الهادي سلامة في معتقل المسكوبية زمن الانتداب البريطاني لفلسطين.
دخل المخيم معركة الانتفاضة متأخرا قليلا عن العديد من المناطق التي اشتعلت مبكرا، كقلنديا وبلاطة ونابلس ورام الله والبيرة وغيرها.. وزادت حدة اشتعال المخيم حين كان يقوم الشبان برشق سيارات المستوطنين المارة على الشارع الرئيسي باتجاه مستوطنة "بساغوت" المقامة على أراضي مدينة البيرة، وفي السادس والعشرين من أيلول 1988 استشهدت الشابة نهيل الطوخي برصاص أحد المستوطنين، وقتها تحول المخيم لبركان في وجه الاحتلال، مظاهرات واشتباكات عنيفة امتدت لأسابيع ما دفع الاحتلال لإغلاق مدخله بالبراميل الاسمنتية.
في إحدى المرات لاحق جنود الاحتلال أحد المطلوبين بداخل المخيم، والذي دخله لزيارة أهله، لكن عملاء وشوا عن تحركاته، فقامت والدتي بتهريبه إلى بيتنا، وتبديل جاكيته بجاكيت شقيقي، ثم طلبت منه القفز من فوق السور المحيط بالبيت، حيث تمكن من الفرار منهم، لكن الجنود تابعوا خطوات المطارد وصولا لبيت سلامة، وحين داهموه أشاروا لوالدتي بأنه كان يلبس جاكيتا مشابها تماما لجاكيت شقيقي، فردت عليهم بأن شقيقي كان نائم وهو يلبس هذا الجاكيت منذ أمس، لكن الجنود أكدوا أنه دخل بيتنا وأن والدتي قامت بتهريبه وتبديل جاكيته، وأن والدتي احتالت عليهم، لكنها لم تملك إلا أن تقول لهم هذا ابني وهذا جاكيته ولا أعرف عمن تتحدثون، لم يدخل أحد إلى هنا، وحين فهموا أنهم فشلوا قاموا بتكسير البيت والصراخ والشتائم والضرب.
كان مدخل ومحيط المخيم محاطا من كل الجوانب بالنقاط العسكرية، التي تراقب كل شاردة وواردة فيه، أذكر منها قرب أو داخل: العمارة الحمراء، مدرسة البيرة الجديدة، إضافة إلى بضعة منازل في محيط المخيم تحولت لثكنات عسكرية.
ha