قبضة تخنق هديل
رشا حرزالله
انتاب هديل حرج شديد، بعد توزيع المعلمة للشهادات المدرسية على الطالبات، حيث خبأت شهادتها ولم تسمح لأحد بالاطلاع عليها سوى أمها ميساء.
لم تتوقع ميساء أحمد أن تكون علامات ابنتها هديل متدنية إلى هذا الحد، رغم محاولاتها الحثيثة مساعدتها للوصول إلى علامات النجاح دون جدوى. هديل تعاني من صعوبة في التعلم واضطراب سلوكي والسبب قبضة مستوطن.
قبل تسعة أعوام، كانت هديل أحمد طفلة لم تتجاوز الثالثة من عمرها، تنام في سريرها القريب من نافذة الغرفة، قبل أن تستيقظ على قبضة مستوطن ملثم، ليشدها من شعرها، ويضربها على وجهها، ويترك هذا الاعتداء آثارا لن تمحى قريبا من ذاكرة هديل وعائلتها وحياتهم، وندوبا في تفاصيلهم اليومية.
زرنا هديل في منزلها بقرية عصيرة القبلية جنوب مدينة نابلس، والتي ما إن أتت سيرة المستوطنين على مسمعها، حتى تركتنا وهرعت إلى أمها لتلتصق بها، حيث علا صوتها بالبكاء، ولم تعد قادرة على السيطرة على جسدها المرتجف، ولا إيقاف صرير أسنانها، أو وجع بطنها، متمتمة بكلام غير مفهوم أحيانا، ووجها مال إلى الصفرة.
طوقت هديل ابنة الـ(12 عاما) خصر أمها ميساء بكلتا يديها، وخبأت رأسها في صدرها، وصوت نشيجها لم يتوقف. احتضنتها الأم وبدأت بطمأنتها وتهدئتها "هذا حديث لا أكثر لا يوجد مستوطنون في الخارج يا هديل"، ثم وجهت لنا الحديث "من يوم الحادثة وهي على هذا الحال".
منزل عائلة أحمد هو الأقرب على مستوطنة "يتسهار" المقامة على مساحة تتجاوز 1500 دونم من أراضي القرية.
يوم الاعتداء هاجم المستوطنون الأهالي تحت جنح الظلام، واعتدوا على المواطنين بتحطيم منازلهم لكن قبلها أحاطوا بغرفة هديل الأرضية، حيث سريرها بمحاذاة النافذة، مد أحد المستوطنين يده عبرها وقبض على رقبتها محاولا خنقها وشد شعرها، وضربها على وجهها، لتهرب مفزوعة نحو أمها، ويقتحم بعدها جيش الاحتلال الإسرائيلي القرية، ويطلق قنابل الصوت والغاز المسيل للدموع والإنارة تجاه المنازل.
هذا الاعتداء لم يمر مرور الكرام على هديل التي صارت عائلتها تصحو على صراخها ليلا من الكوابيس، ولم تعد تتفاعل مع أقرانها أو تلعب معهم، ولا تذهب إلى أي مكان وحدها، وترفض النوم إلا في حضن أمها التي كلما نجحت بإقناعها بالنوم في غرفتها بمفردها، يهاجم المستوطنون القرية، فتصحو مفزوعة وتسرع نحوها طلبا للأمان.
لكن ما لم يكن بحسبان العائلة أن يمتد تأثير ما جرى مع هديل لغاية اليوم، حيث اتضح بعد التحاقها بالروضة قبل سنوات أنها تعاني صعوبة في التعلم "عسر في القراءة والحفظ"، ولا تستطيع القيام بواجباتها المدرسية وحدها، كذلك اضطرابات سلوكية، ويتملكها الخوف كلما سمعت كلمة "مستوطن".
عرضت العائلة هديل على الأطباء الذين أجمعوا أن الصدمة والخوف الشديدين أثرا على مستوى ابنتهما الإدراكي، وهي التي لم تكن تعاني حين ولادتها من أي مشكلة، بل على العكس كانت طفلة "شقيّة" كما تقول أمها.
قدمت منظمة أطباء العالم العلاج النفسي والتأهيلي لهديل، إلى جانب عاملة التأهيل شروق صالح التي وفرها المجلس القروي لعصيرة القبلية، لتساعد عشرات الأطفال إلى جانب هديل ممن يعانون من اضطرابات سلوكية وصعوبات في النطق والتعلم وحالات الخوف والعدوانية والقلق والتبول اللاإرادي، التي تسببها اعتداءات المستوطنين المتكررة على الأهالي.
شعرت العائلة بأن هديل بدأت تتحسن نوعا ما على العلاج، لكن مع تفشي فيروس "كورونا" توقف الأطباء عن متابعة حالتها، في حين لم يتوقف هجوم المستوطنين على القرية أيضا، ما يعود بها إلى نقطة الصفر من حيث العلاج.
لا تستطيع الأم الآن اصطحاب ابنتها لمراكز العلاج بسبب التكلفة المادية، وخوفا من هجوم مفاجئ للمستوطنين على المنزل، فيما لا تتوفر في المدرسة "غرفة مصادر" وهي عبارة عن غرفة دراسية علاجية منفصلة في أي مدرسة، يتم إعطاء الطلبة الذين يعانون من إعاقات تعليمية وصعوبات في التعلم تعليما خاصا.
العام المنصرم، أجرى المجلس مسحا ميدانيا للأطفال ممن تظهر عليهم سلوكيات واضطرابات، لتقديم المساعدة لهم، وتركز على العائلات القاطنة على مقربة من مستوطنة "يتسهار" وتتعرض بشكل دائم لاعتداءات المستوطنين، فتبين حاجة 20 طفلا لمساعدة عاجلة، فيما ترجح الأخصائية شروق صالح أن العدد ازداد هذا العام، مع تصاعد الاعتداءات.
وأنت تجلس في غرفة الضيوف بمنزل عائلة أحمد، بإمكانك مشاهدة أجزاء من المستوطنة من نافذتها، والتي تراقب ميساء (52 عاما) عبرها تحركات المستوطنين، لتبادر فورا بالاتصال بالمجلس القروي والأهالي لإبلاغهم بأي هجوم قد يحصل.
لكن يوم السبت من كل أسبوع موعد ثابت للهجوم، حيث لا تبارح ميساء النافذة وتبقى ترقب تحركاتهم، "الوقت ليس محددا ربما في الساعة الثانية ظهرا كما في الغالب، لكن أحيانا يأتون في الليل" تقول ميساء.
ليست ميساء وحدها من يترقب ذلك، هديل أيضا، التي بسبب الرصاص والقنابل الصوتية التي يطلقها جيش الاحتلال، باتت تخشى الأصوات العالية حتى المفرقعات النارية التي يطلقها الناس في أفراحهم، وفي حال ذلك تهرب إلى غرفتها تدير جهاز التلفاز وترفع صوته عاليا.
في البيت يعيش 6 أطفال إلى جانب هديل، بينهم أحمد من ذوي الإعاقة، يحاول الوالدان حمايتهم من بطش المستوطنين، يتناوبان على السهر ليلا تحسبا لأي هجوم، تقول ميساء إن زوجها اضطر لترك عمله في الداخل المحتل ليبقى إلى جانب العائلة، ويقتصر عمله في البناء على المناطق المجاورة للقرية، وأدى ذلك لتراجع الوضع المادي للأسرة.
ومن أصعب الاعتداءات التي عاشتها العائلة كانت في تشرين الثاني/ نوفمبر العام الماضي، حينها هاجم أكثر من 25 مستوطنا المنزل حيث ميساء وزوجها وحدهما في المنطقة بينما أهل القرية في أعمالهم، اقتحموا البيت بأعداد كبيرة، واعتدوا على الأب بالضرب المبرح، وأصابوه في رأسه ونزف دما بكثرة، وأدى ذلك إلى تخييطه بغرز طبية.
وفي حادثة أخرى، أطلق المستوطنون الرصاص على ميساء أثناء نشرها للملابس، لتخترق الرصاصة قميص ابنها وهي ترفعه على الحبل وتمر من جانب رأسها وتستقر بالحائط تقول "لولا تدخل عناية الله لكنت شهيدة".
أصيب أفراد العائلة لمرات عديدة بالاختناق، وفقدت هديل وعيها كثيرا إحداها عندما هاجمهم المستوطنون ليلا وحطموا مركبة العائلة ونوافذ المنزل، في وقت كان جنود الاحتلال يختبئون تحت الشجر، في توفير للحماية لهم، ولم يتدخلوا لمنع الاعتداء.
في الـ15 من أيار/ مايو الماضي، هجم المستوطنون على عصيرة القبلية، وأطلقوا الرصاص في كل حدب وصوب، لتخترق رصاصة جسد الشاب حسام وائل عصايرة (20 عاما)، ويرتقي شهيدا، لخصت ميساء حال ابنتها هديل وقت الهجوم بـ"ماتت من الخوف".