شهادة حية في الذكرى الثلاثين لسقوط طائرة "أبو عمار" في الصحراء الليبية
سامي أبو سالم
تمر هذه الأيام الذكرى الثلاثون على سقوط طائرة الرئيس الرمز ياسر عرفات "ابو عمار" في الصحراء الليبية في السابع من نيسان 1992، التقى مراسل "وفا" مع أحد شهود العيان على تلك الليلة الليلاء، العميد عبد الرحيم حسين أحد مرافقيه، وشاهد على تفاصيل السقوط.
صدر القرار بالهبوط الاضطراري، الكابتن غسان ياسين والكابتن محمد درويش ومهندس الطيران الروماني تيودور جورجي قرروا الهبوط بعد انعدام كافة الخيارات الأخرى، لا اتصالات ولا وقود ولا رؤية.
لكن، ووفق عبد الرحيم (59 عاما)، لم يكن قرارا سهلا، فمكان الهبوط كان معقدا، فهناك أماكن مزروعة بألغام من مخلفات حروب قديمة، سيما قرب الحدود التشادية الليبية، وربما تكون هناك أماكن صخرية...
"نقلْنا أبا عمار لمؤخرة الطائرة وحصنّاه بالبطانيات والمخدات وتوزعنا في أماكن مختلفة، قائد الحرس فتحي البحرية، والمصور محمد الرواس، وعلي غزلان، وجهاد الغول، ومحمد الجمل، وعماد ندى، وخليل الجمل، وماهر وخلدون، وحرص فتحي البحرية على تحصين وتوثيق الرئيس جيدا."
بدأت الطائرة بالهبوط السريع، كل من كانوا على متنها لم يروا شيئا، كل متشبث بالكرسي، منهم يدعو ومنهم يقرأ القرآن، لم يعرفوا كم يبعدون عن الأرض ولا متى سترتطم بالأرض، فالرؤية منعدمة بسبب العاصفة والاتصالات أصابها الشلل.
وقال عبد الرحيم المقيم في تونس ويشرف على تأمين مقر الرئيس عرفات في العاصمة التونسية: "شعرنا بضربة مرعبة دون أن نرى شيئا، اهتزت أجسادنا وكاد كل منا أن يطير من كرسيه لولا الأحزمة التي توثقنا بها، ساد صمت مخيف، وكأننا بانتظار شيء ما، صوت أنين في مقدمة الطائرة."
غبار كثيف يملأ الطائرة وعاصفة شديدة تحمل حصى يطرق وجوهم وجسم الطائرة. لم يعرف العقيد عبد الرحيم هل هو ميت أم حي أم مصاب، ولم يعرف مصير الرئيس عرفات، مكث متسمرا في مكانه يرقب المجهول.
"أحسست بشخص يمر من جانبي، نفضت الغبار عن وجهي، تحسست جسمي وساقيّ لأتأكد أنني لم أفقدهما، فككت حزام الكرسي وخرجت من الطائرة، وناديت: أخ أبو عمار، فوضع يده على كتفي من الخلف، حضنته: وقال لي أنت بخير يا عبد الرحيم؟
- طالما أنت بخير فنحن بخير أخ أبو عمار."
كانت المقدمة قد اشتعلت، تشارك عبد الرحيم وعماد ندى بإطفائها مستخدمين شنطة لنقل الرمل، كي لا تمتد لباقي جسم الطائرة. كان أبو عمار منشغلا في الاطمئنان على الفريق واحدا واحدا ويناديهم بالاسم وكثير منهم يئنون بين الحطام.
لم يتوقف الأنين الصادر من قمرة القيادة التي "تعجّنت"، توجه أبو عمار نحو الطيارين يسألهم عن أحوالهم، لكن كانت قطع حديدية قد اخترقت صدورهم وأجسادهم واصابات في الرأس والدم ينزف من أكثر من موضع. كان زيت المحرك ينقط على رأس ماهر، في الوقت الذي كان رأس المهندس تيودور مدلى على ساقه.
حاول عبد الرحيم وبقية الفريق إخراج الطيارين فلم يستطيعوا، وفتش بين الحطام وما حول الطائرة على منشار لقص الحديد فلم يجدوا، وكانت أجزاء من الطائرة تناثرت بين الرمال.
أصيب محمد الجمل في عينه، وكانا يوصي الرئيس بأطفاله، ومحمد الرواس كان في شبه غيبوبة يوصي برعاية أمه، وأبو عمار يطمئنهم. وأصيب أيضا ماهر في رأسه، استمر الشباب في محاولات الإنقاذ وتمكنوا من إخراج جهاد الغول، وعلي غزلان الذي كان يغوص في غيبوبة بين الفينة والأخرى، احتضنهما أبو عمار فرحا. وواصلوا محاولة إسعاف وإخراج الطيارين.
وكانت الطائرة من طراز "توبوليف" قد أقلعت من السودان متوجهة إلى تونس مرورا بليبيا، على أن تهبط في مطار الكفرة الليبي للتزود بالوقود، بيد أن عاصفة هوجاء قاتمة أحجبت الرؤية وكذلك الاتصالات. واستمرت عاصفة الرمال في الهبوب ما ولّد خشية من أن تدفنهم، الأمر الذي زاد من يقظتهم.
بدأ الليل يرخي سدوله والعاصفة تشتد محملة بالرمال والحصى الذي يلسع وجوه الجميع، أمر أبو عمار بجمع الطعام وتفقد السلاح (الخفيف) المتناثر. لم يعثر عبد الرحيم على مسدسه ولا فردة حذائه، جمع بعض حبات البرتقال والجوافة، وألعاب كان خليل الجمل قد اشتراها لطفلاته.
شارك الرئيس في لملمة الأشياء، طلبوا منه أن يرتاح سيما وأنه منهك فقال "أنا زيي زيكم..."ولم يتوقف عن رفع معنويات الطيارين المصابين الذين بدأ أنينهم يخفت.
شدد أبو عمار على عدم الإسراف في شرب المياه، وأن يحفظ كل شخص "قنينته"، لأنه لا أحد يعلم كم سيقضون في الصحراء، يوما أو شهر.
ويذكر عبد الرحيم أنه عندما سمعوا أصوات نباح حذرهم أبو عمار من مغبة إطلاق النار كي لا تتجمع الذئاب، وإذا تجمعت على رائحة الدم فلتكن الإصابة عن قرب ومضمونة، لأنها تهيج مع صوت الرصاص.
"لم يكف أبو عمار عن الحركة، بالاطمئنان على المصابين ومتابعة حالة الطيارين. كان كل همه أن يدعمنا معنويا لنصمد أطول فترة ممكنة، كان هو ونيسنا الوحيد في الصحراء، كلما أرى أبو عمار يتبدد القلق وأزداد قوة."
وأضاف العميد في الحرس الرئاسي أن أجمل مشهد يذكره هو حبة البرتقال: "كنت أرى في حبة البرتقال التي تكسوها الرمال وكأنها هي الحياة وأرى في أبي عمار مصدر القوة والأمان، كنا أطفالا وأبانا معنا."
فجر اليوم التالي أمر فتحي البحرية بإشعال النار بعيدا عن الطائرة فربما يكون الدخان الأسود مؤشرا لمن يبحث عنهم. أشعل عبد الرحيم وعماد بعض إطارات الطائرة واخذا يغذيان النار بكل ما تقع عليه أيديهما.
ووصل سرب من طيور صغيرة فانتبه لها أبو عمار وابتهج وقال إن هذه الطيور لا تسافر أكثر من 20 كم لذلك فالوضع مطَمئن والأماكن المأهولة ليست بعيدة، وفقا للعميد عبد الرحيم.
وكان فتحي الليبي يبحث عن أوراق حول حطام الطائرة فرأى غبارا متصاعدة، فتسمر مكانه ثم عاد للطائرة وهتف "وصلت النجدة".
وصلت النجدة من مخيم عسكري فلسطيني قرب مطار السارة بقيادة خالد أبو سلطان، ساعدهم مواطنون ليبيون من أبناء الصحراء... نقلت القوات الفلسطينية أبو عمار ورفاقه إلى مطار السارة، أما الطيارين الثلاثة فقد توقف أنينهم، وصعدت روحهم إلى السماء.
وكان سقوط الطائرة ملهما لأصحاب أقلام، فكتب وزير الثقافة الأسبق، الروائي يحيى يخلف، رواية "تلك الليلة الطويلة"، تحدث فيها عن تفاصيل التفاصيل بعد لقائه من كانوا على متنها.
كما تناولها مستشار الرئيس عرفات لشؤون منظمة التحرير الفلسطينية، (الراحل) أحمد عبد الرحمن، في كتابه "عشت في زمن عرفات"، ذكر فيها أن طائرات فرنسية ومصرية وليبية شاركت في البحث عن الطائرة.
وتابعت حينها وكالات الأنباء العالمية قضية اختفاء طائرة أبو عمار، وسط اهتمام شعبي فلسطيني في مختلف أنحاء العالم، وما أن بدأت الأخبار تتوالى عن العثور على أبو عمار حيا حتى امتلأت شوارع الأرض المحتلة والشتات بالابتهاج والاحتفالات.