ماذا يعني أن تفقد طفلة في السادسة أمها؟
رامي سمارة
بزي عسكري يعتلي قميصاً يحمل صورة أمها، اتكأت سلاف على مقدمة سيارة أمام مسجد "صلاح الدين الأيوبي" في بلدة أبو ديس جنوب شرق القدس المحتلة.
لم تكن أمها من اختارت لها ثيابها، ولا من ضفر شعرها ووضع الطلاء على أظافرها، ولم تعد تتابع غذاءها ولا تصطحبها صباحا إلى الروضة كما لم تذهبا نهاية الأسبوع في نزهة، وقسراً لم تعد تقوم بدورها كأم منذ عام وأكثر.
من حول سلاف، كان المئات يحتشدون حاملين أعلام فلسطين ورايات الفصائل، استجابة لدعوات انطلقت من مئذنة المسجد للمشاركة في جنازة ابنة البلدة الشهيدة مي عفانة.. تبتسم تارة وتارة ترفع شارة النصر أمام عدسات المصورين، الذين اندفعوا صوبها حين دلّت عليها إحدى سيدات البلدة: "تلك هي ابنة الشهيدة".
بإجابات مقتضبة تحدثت عن أمها وعلاقتهما التي انطفأت قبل 14 شهراً، وراحت تجيب عن أسئلة الصحافيين، حول الحب والحضن الدافئ اللذين ذهبا بلا عودة، وعن مشاوير الذهاب والعودة التي قضتاها سوية، وعن التشارك في سائر تفاصيل الحياة.. في النوم والأكل والدرس وفي كل شيء، هل فعلاً تدرك طفلة في السادسة معنى أن تودع اليوم أمها التي استشهدت قبل 14 شهراً؟ قد تدعي سلاف ذلك، ظناً أن جسد والدتها الذي كان في طريقه للبلدة بعد أن أفرج عنه الاحتلال؛ ما زالت تدب الروح فيه. هذا على الأرجح، فكيف يتسلل إلى مداركها الغضة ما يصعب على البالغين استيعابه، بأن هناك من يحتجز أجساداً بلا حياة؟ والأقرب لذهن طفلة بعمرها تصديق فكرة اعتقال الأحياء، فما الذي يمنع الغائبة أمها من أن تنام في مثواها الأخير كغيرها من الموتى؟
ضجّ المحيط على وقع مركبة الإسعاف التي أطلقت أبواقها إيذاناً بوصول الجثمان ليسجى في الطابق الثاني من المسجد ويلقي عليه هناك الأقارب نظرة الوداع ثم تصلى عليه صلاة الجنازة.
تدافع الناس حول الباب الخلفي للسيارة، فتحوه وحملوا النعش وصعدوا به إلى الأعلى.. مُنع الصحافيون من تصوير تلك اللحظات حفاظاً على كرامة الشهيدة وأهلها، فكانت الصور أبلغ في وجوه أقاربها وهم يهبطون سلالم المسجد بعد الوداع.. هناك، لم يخل من العبرات أي وجه، وكذلك وجه سلاف، التي لم تقو على الهبوط وحيدة، وكأن برودة جسد والدتها سرت في جسدها بنظرة وقبلة الوداع.
سلاف، رافقت موكب التشييع وصولاً للمدفن، وقفت بجوار القبر وكانت الشمس قد بدأت تتوارى خلف الأفق، وهي تراقب جسد أمها الذي سيتوارى إلى الأبد، هناك، عثر عليها مجددا صحافيون، فأمطروها بصور وأسئلة عن الأحاسيس والمشاعر، والتي يعتقد غير العاملين في هذا المجال بأنها ساذجة سمجة. انفض الصحافيون بعد أن ضجرت منهم، فالتف حولها أبناء بلدتها وأحاطوها بالكثير من العطف، يمازحونها ويربتون على كتفها ويمسحون رأسها براحاتهم، تلتفت إليهم تبتسم ثم تعود وتطرق رأسها، تناظر الحفرة تمتلئ شيئاً فشيئا، تضحك وتقول: قرب يصير جبل. حين شارف الدفن على الانتهاء، سألت أحد أقاربها كان بجوارها: هل انتهينا؟ رد بالنفي: ليس بعد، تبقى أن نضع إكليل الورد هذا عند القبر ثم نغادر إلى المنزل.
سلاف التي حملت الإكليل وانحنت أمام القبر وقبل أن تهم بالمغادرة، عاجلها قريبها ممازحاً بسؤال: عند مين بدك تنامي الليلة؟ تجنبت الطفلة الإجابة، التفتت حولها وفتشت في وجوه الحاضرين إلى أن التقطت يد جدها خالد.
"الليلة بدي أنام عند تاتا لودي" قالت سلاف قبل أن يطبع جدها قبلة على خدها ويغادرا.
هناك، وهناك أيضا، عند باب المقبرة، التقت سلاف بوالدها حسن جفال، الذي كان يقدم إفادة صحفية.. "الصحافيون يحوطون بابا الله يعينه"، قالت الطفلة لجدها، بينما كان والدها يجيب عن سؤال صحفي: "سأتركها للناس أن يتخيلوا ماذا يعني أن تفقد طفلة في السادسة أمها".