أهوال الاعتقال .. الأجساد تروي بدل الألسن
رامي سمارة
تحوّل المعتقلون الى ضحية ينكل بهم كل يوم، ضرب وتعذيب وسحب للأغطية والملابس، وتحويل الأقسام والغرف الى زنازين، ومنع الفورة وتقديم طعام سيئ كماً ونوعاً، وسحب الأجهزة الكهربائية وأدوات المطبخ والتدفئة، ونقل تعسفي وعزل انفرادي، وحرمان من العلاج والأدوية، ومنع الزيارات ولقاءات المحامين والمؤسسات الدولية.
كان هذا توصيفاً موجزاً قدمه رئيس هيئة شؤون الأسرى والمحررين قدورة فارس للقنصل الفرنسي نيكولاس كاسيبانيدس خلال لقائهما في رام الله قبل أيام، لأحوال المعتقلين في سجون الاحتلال بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، والذين وصل عددهم إلى 6220، ارتقى منهم نتيجة التعذيب وسوء الأوضاع في المعتقلات 7 شهداء.
وقد لا يفي مصطلح "أحوال" لوصف ظروف الاعتقال التي تفرضها سلطات الاحتلال الإسرائيلي، على عدد غير محدد من المواطنين الذين اعتقلتهم من قطاع غزة، منذ بدء العدوان، وارتقى منهم عدد غير معلن من الشهداء.
الشهادات التي يدلي بها بعضهم بعد تحررهم تكشف أن الاعتقال يكتنفه "أهوال" يصعب على البعض وصفها لقسوتها، حين يتحدثون عن تجاربهم وما كابدوه خلالها.
خلال الأسابيع الماضية، عمد جيش الاحتلال إلى نشر لقطات مصورة لعشرات المعتقلين في قطاع غزة، وهم معصوبو الأعين ومكبلو الأيدي، ولا يستر عوراتهم سوى ملابس داخلية، العشرات صوروا في حفر كبيرة وآخرون في الطرقات، وغيرهم ينقلون في آليات عسكرية إلى مناطق مجهولة.
آثار التعذيب على أجساد المعتقلين تروي أكثر مما تنطق به ألسنتهم:
وتكشف الشهادات أن "تعرية" المعتقلين من قطاع غزة، ليست سوى تمهيدا لصنوف تعذيب تصب على أجسادهم ونفسياتهم، ومن بينهم رجال ونساء وأطفال وطواقم طبية ومرضى وجرحى وذوو إعاقة، وإخفاؤهم قسرياً داخل معسكرات لجيش الاحتلال أو في معتقلات جرى استحداثها مؤخراً.
وتشترك غالبية من حالفهم الحظ ونجوا بالإفراج عنهم، بعلامات ترى على اليدين والركب، الأولى من آثار طول فترة التكبيل بالأصفاد البلاستيكية، والثانية من طول فترة الإجبار على الجثو دون حركة في مراكز الاعتقال.
يقول صالح رجب محمود، من بيت لاهيا شمال قطاع غزة، والذي اعتقل ضمن مجموعة مؤلفة من 200 مواطن، إنه تم إجبارهم على خلع ملابسهم، قبل تكبيل أيديهم للخلف لمدة تقارب 24 ساعة، منعوا خلالها من الطعام والماء وتعرضوا فيها للضرب المبرح، ثم جرى نقلهم بحافلات إلى موقع آخر يبعد مسيرة ساعتين عن مركز التوقيف الذي تم جمعهم فيه للمرة الأولى.
وهناك عرض عارياً كالبقية على المخابرات والعيادة كما يقول صالح، وبعد أن انتهوا منه تناوب عليه جنود الاحتلال ضرباً بقبضات أيديهم على رأسه ووجهه وصدره، وبعدها قام أربعة جنود بجره إلى حمّام صغير ووضعوا رأسه داخل المرحاض.
ويصف صالح بعد الافراج عنه ووصوله إلى أحد مركز الإيواء في مدينة رفح، مرحلة الاعتقال التالية، والتي نقل فيها إلى ما يعرف بـ"العنبر"، "هناك أعاد الجنود تكبيل أيدي المعتقلين وتعصيب أعينهم وإجبارهم على الجثو على ركبهم، ومن كان يحرك قدمه إذا ما شعر بالألم يتم شبحه على السياج المحيط بموقع الاعتقال، ويتعرض للضرب بالعصي والكي بالنار، وبقي هذا الحال لخمسة وثلاثين يوماً".
علي محمود لبد، اعتقل من مخيم جباليا وأفرج عنه مؤخراً، وإضافة إلى ما سبق، روى أن جيش الاحتلال كان لا يمانع نوم الأسرى في "العنبر" ولكن دون فك الأصفاد البلاستيكية من أيدهم أو إزاحة العصبة عن أعينهم.
وتحدث عن فترة اعتقاله التي امتدت على مدار 42 يوماً، "كان الجنود يطلقون الكلاب نحو المعتقلين ويسكبون المياه فوقهم في ظل الأجواء الباردة".
وفي مستشفى الشهيد أبو يوسف النجار في رفح جنوب قطاع غزة، قدم عدد آخر من المحررين شهادات لوسائل إعلام حول فترة اعتقال يصعب وصف شدتها، فيما تروي الآثار التي تركتها التجربة على أجسادهم أكثر مما تنطق به ألسنتهم.
أحدهم وكان يتنقل على كرسي متحرك، قال إن جيش الاحتلال لم يراع حين اعتقله أنه كان يواصل علاجاً من "شعر" في الجمجمة، وثلاثة كسور في عظمة الترقوة.
وأشار إلى أن الجنود تعمدوا ضربه على رأسه وكتفه بأحذيتهم، ولما كان يفقد الوعي يقومون بإفاقته ويستأنفون ضربه، إلى أن شعر أن شريحة البلاتين التي زرعها في الترقوة خرجت من مكانها.
محرر آخر روى أن الاحتلال وضعه ومعتقلين آخرين في حفرة وطمروهم بالتراب، ثم أطلقوا كلابهم نحوهم، وبعد ذلك قاموا بالدوس على رؤوس ووجوه المعتقلين بالأحذية.
وبعد عدة ساعات حسب شهادته، اخرجهم الجنود من الحفرة، وطرحوهم أرضاً، ثم صوبوا الأسلحة عليهم وقالوا لهم "تشهدوا"في إشارة إلى نية إعدامهم، وبعد ذلك انالهوا عليهم ضرباً بأعقاب البنادق والعصي، ثم جرى نقل المعتقلين إلى موقع آخر وهناك هددوهم بالإعدام مرة أخرى بعد أن أجبروهم على ارتداء لباس بلاستيكي أبيض اللون.
ويقول فتى إن المكان الذي اعتقل فيه مكبل اليدين إلى الخلف ومعصوب العينين، فرشت قوات الاحتلال أرضيته بالأرز كي تحول دون تمكن المعتقلين من النوم.
وأضاف أن فترة الاعتقال التي دامت خمسة أيام تذوّق فيها الطعام مرة واحدة فقط، وكانت عبارة عن كسرة خبز جافة، وسمح له بشرب الماء مرة واحدة، وعندما كان يطلب قضاء حاجته يقول له السجانون "اعملها على حالك".
ويروي محرر آخر أن جنود الاحتلال ألقوه أرضاً عن ظهر شاحنة كانت تحمل عشرات المعتقلين، رغم أنه كان يعاني من الشلل ولا يقوى على الحركة، وعندما أخبرهم أنه يستخدم كرسياً متحركاً للتنقل تلقى رداً مضمونه: "أنت هنا معتقل ولست في رحلة".
ويقول: "كان الجنود يركلون المعتقلين بأقدامهم لدفعهم للهبوط من الشاحنة، وعندما حان دوري قلت لهم إنني من ذوي الاحتياجات الخاصة، فأظهر الجندي أنه يتفهم حالتي، قربني إلى حافة الشاحنة وتدلت قدماي نحو الأرض وبعدها قام بركلي على ظهري بقدمه فسقطت أرضاً وكسرت شريحة البلاتين التي في ظهري وكذلك قدمي".
وروى معتقلون مفرج عنهم إلى غزة، شهادات مروعة عن أهوال الاعتقال، وإخضاعهم لأشكال قاسية ووحشية من التعذيب، تبدأ بإجبارهم على التعري لحظة الاعتقال، ثم ما يلي ذلك من ضرب واحتجاز في العراء والصعق بالكهرباء والشبح، والحرمان من الطعام والماء والنوم واستخدام دورات المياه ولعدة أيام، عدا عن السب والشتم بألفاظ نابية وأخرى خادشة للحياء، والتحرش الجنسي اللفظي، والتهديد والابتزاز.
قوانين عنصرية للتغطية على الجرائم بحق المعتقلين:
وأكد نادي الأسير، أن الاحتلال الإسرائيلي يرفض الإفصاح عن أي معطيات واضحة عن معتقلي غزة في سجونه ومعسكراته، وينفّذ بحقّهم جريمة إضافية تتمثل بالإخفاء القسري، تحت "غطاء قانوني".
وصادقت الكنيست الإسرائيلية في 15 من كانون الثاني/ يناير الجاري، على اقتراح تمديد العمل بسريان اللوائح التي تحرم معتقلي غزة من لقاء المحامي لمدة أربعة شهور إضافية، تنتهي في الثالث من شهر نيسان / أبريل المقبل.
وتنص اللوائح على أن "المعتقلين بسبب عمليات عدائية وقعت بين السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 وحتى 10 تشرين الأول/أكتوبر 2023 أو كل من اعتقل ضمن العمليات القتالية في غزة والتي وقعت بين السابع من تشرين الأول/ أكتوبر وحتى انتهاء العمليات العسكرية لن يسمح لهم بلقاء موكليهم، وذلك حتى انتهاء 180 يوما من الموعد الأول الذي بدأ فيه سريان عملية منع المعتقلين من اللقاءات.
وأشار نادي الأسير إلى أن إدارة سجون الاحتلال كانت قد اعترفت مطلع هذا الشهر بوجود 661 من معتقلي غزة ممن تم تصنيفهم بـ"المقاتلين غير الشرعيين" وإسقاط وتجريدهم من صفة كونهم أسرى حرب، بموجب قرار أصدره وزير جيش الاحتلال يوآف غالانت في 10 تشرين الأول / أكتوبر 2023، استند فيه إلى "قانون المقاتل غير الشرعي" الصادر عام 2002.
ويحرم هذا القانون المعتقل من حقه في الدفاع عن نفسه أمام المحكمة، كما لا تصدر لائحة اتهام بحقه أو توجه له تهمة محددة، ويمكن أن يستمر احتجازه لفترة غير محدودة في انتهاك خطير لأسس المحاكمة العادلة.
وأكد مكتب مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، أن ليس ثمة رقم دقيق لأعداد المعتقلين من الذكور في قطاع غزة، إلا أن تقديراته تشير إلى أن العدد بالآلاف.
وبحسب تقرير لهيئة شؤون الأسرى والمحررين صدر الإثنين الماضي، فإن قوات الاحتلال تعتقل في سجن الدامون 54 أسيرة من قطاع غزة، بينهن مسنات وقاصرات، إلى جانب 19 معتقلة من الضفة، و11 من أراضي الـ48، و3 من القدس المحتلة.
سونغاي: كانت الصدمة واضحة على المعتقلين المفرج عنهم:
واتهم ممثل مكتب مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة أجيت سونغاي إسرائيل مؤخراً بـ"إساءة" معاملة المعتقلين الفلسطينيين في قطاع غزة، وتعريضهم لظروف ترقى إلى حد التعذيب.
وأشار إلى أنه التقى بفلسطينيين اعتقلتهم سلطات الاحتلال في أماكن مجهولة لمدد تتراوح بين 30 إلى 55 يوما، تعرضوا خلالها للضرب وتعصيب الأعين والإذلال وسوء المعاملة دون تمكينهم من الوصول إلى عائلاتهم أو محاميهم أو أن يحصلوا على أي حماية قضائية فاعلة، كما أطلق سراح بعضهم وهم عراة لا يرتدون إلا "الحفاضات".
وفي حديث صحفي عبر الفيديو من غزة، قال سونغاي: "لسنا متأكدين من سبب الإفراج عنهم وهم يرتدون الحفاضات، لكن كانت الصدمة واضحة عليهم عندما التقيتهم".
وطالب المسؤول الأممي بتحقيق كامل وشفاف في جميع حالات سوء المعاملة أو التعذيب التي يتعرض لها المعتقلون من قطاع غزة.