من قصص الحرب... حقائق أغرب من الخيال
سامي أبو سالم
ليلة التاسع من نوفمبر، انهمرت القذائف والصواريخ على مخيم جباليا شمال قطاع غزة من الطائرات الحربية والدبابات، مواطنون يركضون في الشوارع على غير هدي، بعضهم يتعثر في جثة أو شظايا أو ركام أو كومة قمامة، آخرون يصابون وينزفون في الشوارع حتى الموت.
حالة من الرعب والهلع غير المسبوق، تقول المواطنة رندة حسين ظاهر من مخيم جباليا لمراسلنا، والتي استشهد زوجها بين يديها ومرت بمراحل نزوح لم تنته.
استضافت رندة في بيتها بالمخيم بعض العائلات الهاربة من الموت، وفي هجوم كثيف من الطائرات الحربية الإسرائيلية على منطقة "الشهداء الستة" انهار بيتها "الاسبستي" على من فيه من أطفال ونساء وشبان، بمن فيهم أبنائها ريما (28 عاما) مصطفى (24 عاما) وليندا (21 عاما) ومحمد (30 عاما) وزوجته هديل وأطفالها الثلاثة.
انتقلت رندة وزوجها، فخري (58 عاما)، إلى بيت الجيران المحاذي لها، لكن القصف استمر ليلة الثامن عشر من نوفمبر، فاخترقت شظية "كبيرة" جسم زوجها الذي كان يرقد بجانبها وحل دمار بالمنزل.
تدفقت الدماء من بطن وساق فخري الذي بقي ينزف 3 ساعات بلا اسعاف، فالاتصالات الهاتفية مشلولة ولا يستطيع أي متطوع من الجيران الاقتراب من المربع المستهدف.
لم تغادر رندة زوجها الذي يحتضر، وبقيت بجانبه تشد على يده وتطمئنه وتؤكد له أنه سيعيش. طلب من أبنائه وأحفاده النزول للطابق السفلي، وبعد خمس ساعات وصل الإسعاف، طلب من زوجته أن تسامحه قبل نقله للمستشفى الاندونيسي.
لم تقبل ابنته ريما أن يغادر دون أن تحضنه، حمله رجال الإنقاذ وكان جسمه باردا جدا خلال النزول على الدرج. انطلق المنقذون في سيارة الإسعاف يحملون زميلهم الذي يعمل موظفا في وزارة الصحة، وبقيت زوجته تعتني بأحفادها وبناتها على أمل أنه سيعود، وفي أسوأ الأحوال على كرسي متحرك.
وصل صديق العائلة حمزة سالم من المستشفى، وقف أمام رندة بيد أنه لم يستطع الحديث وارتكز بحجة أنه يريد بعض الفراش، وهرب، ثم جاء ابن أخيها "رائف" وأبلغها بخبر استشهاده، وصل جثمان فخري الساعة السابعة صباحا مع الدكتور محمد، شقيق رندة التي انهارت على صدره بالضرب والبكاء لأنه "أنقذ الناس ولم ينقذ فخري." ألقت وبناتها وابنيها نظرة الوداع وحزموا أمتعتهم للرحيل باتجاه الجنوب مع جارتها وبناتها، إحداهن تعاني من متلازمة داون.
انطلقوا لمركز المخيم، ومن هناك مشيا إلى أن وصلوا شارع يافا في غزة (حوالي 4 كم)، بالكاد وجدوا سيارة، حملت رندة وبناتها وأحفادها على أن السيارة تعود وتحمل أولادها، وهذا الافتراق الأول، وصل السائق مفترق "دولة" على الطرف الجنوبي لمدينة غزة، حاولت العودة مع السائق إلى أولادها لكنه رفض بسبب شدة القصف وكثافة إطلاق النار، لتبدأ رحلة جديدة.
وجدت أمامها آلاف من البشر يحاولون التوجه للجزء الجنوبي من قطاع غزة لكن كانت قوات الاحتلال قد نصبت حاجزا لتتحكم في حركة المواطنين لقتل أو اعتقال أو السماح لمن ترغب. انتظرت لما بعد العصر وسط الجوع والعطش وإطلاق النار الاستعراضي من جنود الاحتلال. واهاناتهم اللفظية والبدنية للمواطنين.
صدرت الأوامر من جنود الاحتلال بالعودة، لكن أين ستعود رندة؟ لا مكان حولها تعرفه ومن المستحيل العودة إلى جباليا. حالة من الهرج والمرج انتابت الناس، منهم من حمل أطفاله وأمتعته الثقيلة، وغيرهم آثر النوم في البرد على ألا يفقد دوره صباح اليوم التالي.
كانت رندة تعتني بأحفادها فخري (3سنوات) ورندة (4 سنوات) وتيم (6 شهور)، وجارتها التي خرجت حديثا من عملية جراحية في مفصل الساق ومعها طفلة وفتاتان.
ازداد صوت القصف المدفعي والجوي، تشتت الناس ومنهم من ألقى بأمتعته وهرب بين أشجار الزيتون، منهم من أصيب، ومنهم من فر. ابتعدت رندة قليلا عن الحشد، تخلصت من متاعها ومن حقائب ملابس الأطفال لتسهل الحركة، أبقت على واحدة فقط فيها "الضروريات جدا".
صادفها وجارتها بعض الشبان، زودوهم بعبوات ماء، ولم تعرف كيف انفصلت عن جارتها وبناتها وسط الفوضى واللهاث وراء الماء، تمسكت بأحفادها وبدأ الليل يرخي سدوله عندما أخذت تركض باتجاه المجهول سيما وأنها المرة الأولى التي تدخل فيها هذه المنطقة، بقيت تركض بين بيوت مدمرة وشوارع محفورة إلى أن وجدت مخزنا مهجورا لا تعرف لمن، دخلت المخزن المغبر والمعتم، فداست على شيء تحرك، وإذ به كلب عالق تحت ركام قصف سابق، هب في وجهها ووجه الأطفال ما أدخلهم في حالة من الرعب، إلا أنهن صممن على البقاء بصحبة الكلب العالق، والأطفال الجياع والمنهكون الذين ناموا فورا.
صباح اليوم التالي، قررت ومن معها التوجه للحاجز، وجدت كارة يجرها حمار، وضعت أمتعتها وأحفادها وبناتها وزوجة ابنها على الكارة، أصيب الحمار بنوبة قلبية وسقط ارضا، أكملت طريقها مشيا وهي تحمل طفلين، لكن كانت قوات الاحتلال قد منعت المواطنين من عبور الحاجز، انتظرت حتى ما بعد ساعات العصر دون جدوى. عادت تمشي في الشوارع الغريبة والأطفال يبكون جوعا وعطشا، وهي تصرخ بكلمات غير مفهومة ثم استنجدت بزوجها "تعال شوف يا أبو محمد، وين انت؟"، وتصرخ على أولادها محمد وليندا ومصطفى، وسط الظلام الحالك الذي يشقه فقط لهب الانفجارات.
استنجدت ببضعة شبان اصطحبوها ومن معها إلى إحدى المدارس التي تأوي لاجئين في حي الزيتون، لم تكن المدرسة مكتظة لأنها أصلا في منطقة خطرة، قالوا لها أنت في مدرسة صفد في حي الزيتون. ما أن وصلت غرفة فصلية جلسوا على ملاية منفردة وسط البرد غاص الأطفال في نوم عميق رغم جوعهم وعطشهم.
غابت إحدى النسوة عنها وعادت لها برغيفين وقليل من مسحوق "الدُّقة" (قمح محمص ومطحون مع ملح وفلفل وبعض المنكهات). صباح اليوم التالي بحثت عن أي طعام للرضيع والمرضعة، لا طعام ولا ماء إلا النذر اليسير، لم تطلب طعاما لنفسها بحجة أنها "صائمة". الساعة الخامسة فجرا، وصلت عائلة "شلدان" هاربة من مركز إيواء في مدرسة للأونروا، صادف وجود علبة غذاء أطفال كانت بالنسبة لها كنز من كنوز ألف ليلة وليلة.
لم تطعها نفسها لطلب الطعام، أخرجت مبلغا من المال كي تثبت انها غير متسولة و"ابنة" عز، عرضت المال على النسوة كمساهمة منها في الطعام الذي ستأكل إن توفر، رفضت النسوة المال وأشركنها في تحضير الطعام، "أولادك أولادنا"، تقول رندة إنه أصعب أسبوع مر عليها لأنها شعرت انها "خادمة" تعمل مقابل الأكل، على الرغم من أن النسوة رحبن بها.
كانت تبحث عن أي شيء بحاجة لغسيل بحفنة ماء عزيزة، وتعجن وتخبز باستخدام ما توفر من دفاتر وكتب وبعض مقاعد الدراسة فقط كي لا تكون عالة على غيرها. وأكبر مشكلة واجهتها بجانب شح الماء وطعام الأطفال كانت عدم توفر حفاضات الأطفال.
مضى أسبوع والقصف لم يتوقف على حي الزيتون، وعلى المدرسة التي سقطت فيها بعض القذائف ما أدى لاستشهاد مواطن واصابة آخرين أمامها. حاولت العودة للشمال لكنها لم تستطع أن تغادر باب المدرسة، ولم تستطع الاتصال بأي من أبنائها وبناتها لتعرف هل هم أحياء أم اموات، وتعبئ غالونات الماء من أي أحد يحمل ماء على كارة يجرها حمار يمر بباب المدرسة إن استطاع.
تداولت الأخبار الإعلان عن هدنة، انطلقت منذ الصباح الباكر نحو حاجز الاحتلال. بيوت مدمرة وجرافات تجرف المنازل والأشجار وحفر في الطريق وإطلاق نار مستمر، توجهت للحاجز مرة ثانية، وصلت هناك، وتعرضت كغيرها من المواطنين للإذلال، جلوس، قيام، رفع راية، أنزل يديك ارفع يديك، دخلت في كابينة الفحص التي نصبها الاحتلال، بعد أن قطعت حاجز الفحص وهي تحمل الأطفال، تعثرت بجثة شاب يتكوم الذباب عليه، في يده كيس ملابس ويرتدي سترة سوداء وبنطال جينز، تركه جنود الاحتلال منذ عدة أيام في الهواء الطلق. ما أن حاولت رندة العبور للجهة الجنوبية حتى تفاجأت بمواطنين في اليوم الأول للهدنة يحاولون العودة لبيوتهم في شمال غزة. أطلق جنود الاحتلال النار فأصابوا العشرات وقتلوا شابين.
تعرقل مرورها من الحاجز فقط بسبب لون حفيدتها. تمحص جنود الاحتلال في حفيدتها ذات الشعر الأصفر والعيون الخضراء، فشكوا أنها "إسرائيلية"، طال الفحص قبل أن يسمحوا لها بالدخول.
وصلت رندة إلى قرية الزوايدة الوادعة، وما ان وطأت قدمها واكتسبت ما تيسر من الراحة حتى تلقت خبر استشهاد أختها "حياة" وزوجها "علي" وأولادهم واحفادهم، في الرابع من ديسمبر، دُفنت تحت الركام ولم يستطع أحد انتشال جثمانها حتى اللحظة. وبعد أربعة أيام، تلقت خبر استشهاد أختها "سوزان" التي دفنت في بيت أحد الجيران.
مكثت رندة في الزوايدة، وسط القطاع، زهاء الشهر، تصارع في الحصول على الماء والعجين والخَبز والغسيل ورعاية الأطفال وألم فراق زوجها، وتنتظر هي وغيرها من العائلات معونات سواء فراش أو أطعمة لم تصل.
في الأسبوع الأول من يناير تعرضت المنطقة التي تقطن فيها لقصف شرس، واعتلى قناصة إسرائيليون مبان عالية يطلقون النار على ما تطاله أعينهم، والقذائف تتساقط في الشوارع الرئيسة، خطفت رندة أحفادها ومتاعها وهربت مع زوجة ابنها تحت القصف مشيا ثم استعانت بكارة يجرها حمار، توجهت إلى مدينة دير البلح التي يصنفها الاحتلال أنها "منطقة آمنة".
استقرت رندة في دير البلح في بيت أحد الأقارب عدة أيام، ما أن وضعت أوزارها حتى طالها القصف أيضا. بيوت تنهار على ساكنيها، عائلات بأكملها تُدفن تحت الركام وليال لم تخل من دمار وموت، خطفت الأطفال ومتاعها وانتقلت برفقة ابنتها وزوجة ابنها وهربت، استأجرت شاحنة ووصلت لمنطقة المواصي المحاذية لشاطئ البحر في مدينة خان يونس جنوب القطاع.
وكان الاحتلال قد أصدر تحذيرات للمواطنين بالتوجه إلى "المناطق الآمنة" على رأسها المواصي. مكثت هناك أسبوعين في دفيئة زراعية، عدة عائلات نظفت الدفيئة من بقايا نبات البندورة، وتقاسموها كل عائلة جزء ما يعادل غرفة ستروا أنفسهم بقطع قماش وبعض البطانيات.
تتحول الدفيئة نهارا لما أشبه بفرن، وفي المساء أشبه بثلاجة، كما وصفت، ما أن التقطت أنفاسها حتى وصلها القصف، مزق خياما وقتل نازحين أكثر من مرة، في إحدى المساءات كانت مستلقية في الدفيئة بين أحفادها، سمعت انفجارات وإطلاق نار والشظايا مزقت الدفيئة فرأت مروحية تطلق الرصاص في عدة اتجاهات، والرصاص يتناثر داخل الدفيئة ويرتطم بالأنابيب والجسور المعدنية مصدرا أصواتا تنذر بالموت.
بالكاد مرت ساعات الرعب، وما أن بزغت الشمس حتى حملت أحفادها ومتاعها وتوجهت لمدينة رفح تشارك عدة عائلات نازحة في شاحنة لتستقر مؤقتا مع أخيها وعائلته في محل تجاري نفذت بضائعه منتظرة رحيل آخر، كما قالت.
أول أمس، سمعت تهديدات الاحتلال باجتياح رفح، حملت أحفادها وابنائها وشاركت عائلات أخرى وغادرت مدينة رفح إلى منطقة وسط قطاع غزة، تداولت الأخبار المحلية تعرض منطقة وسط غزة (مدينة دير البلح ومخيمها، ومخيمات المغازي والبريج والنصيرات) لقصف جوي في مناطق متفرقة.
لا مكان آمن في قطاع غزة، رائحة الموت تفوح في كل مكان، وجنود الاحتلال يتربصون ويتفننون في قتل الأبرياء ويلاحقونهم من منطقة إلى أخرى، ويبقى الفرار من الموت والبحث عن الحياة هو الهدف، طالما بقي الاحتلال يضرب عرض الحائط بكل المبادرات الدولية الهادفة لوقف الحرب.