"استغلال الأطفال"... ظاهرة دخيلة على القيم الوطنية وجريمة يحاسب عليها القانون
في ظل التطورات الخطيرة التي شهدتها جنين في الأيام الماضية، ظهرت مقاطع فيديو صادمة من داخل مخيم جنين للاجئين تُظهر استغلالا مرفوضا للأطفال من قبل الخارجين عن القانون، عبر تسليمهم السلاح، وتعريض حياتهم للخطر، وتلقينهم عبارات للتحريض على الأجهزة الأمنية، في انتهاك صارخ للقوانين والأعراف التي تحمي حقوق الأطفال وتصون حياتهم، وبما يتنافى مع قيمنا الدينية وأعرافنا وتقاليدنا الوطنية.
الناطق الرسمي لقوى الأمن الفلسطيني، العميد أنور رجب، قال "إن الأجهزة الأمنية، وفي إطار عقيدتها الوطنية التي ترى أن حماية أطفالنا وصون حقوقهم هي عملية تشاركية مع شرائح وفعاليات المجتمع كافة، تدعو الأهالي وأولياء الأمور إلى متابعة أبنائهم، وتوعيتهم بالمخاطر المحدقة بهم، وحمايتهم من العابثين الذين يسعون إلى سلب براءتهم وطفولتهم وتدمير مستقبلهم خدمةً لأغراضهم ورغباتهم الدنيئة".
وأكد أن "أطفالنا أمانة، ومسؤوليتنا المشتركة هي حمايتهم من الاستغلال والخطر".
وتعمل الأجهزة الأمنية منذ أيام على ملاحقة الخارجين على القانون بكافة عناوينهم ومسمياتهم، ضمن خطة معدة مسبقا، حيث تم اعتقال العديد ممن اختطفوا مخيم جنين تحت سطوة البلطجة، والمال المشبوه، وبترهيب السلاح، وسيتم تقديمهم للعدالة، وفرض النظام والأمن وبسط سيادة القانون، وإزالة كل ما يعكر صفو الحياة اليومية للمواطن، بحسب العميد رجب.
في المقابل، تحاول الفئات الخارجة عن القانون تعطيل جهود الأجهزة الأمنية المتواصلة لفرض النظام وبسط سيادة القانون، عبر استغلال الأطفال وتصويرهم وهم يحملون السلاح، في تشويه لصورة الطفل الفلسطيني الذي ينشد الحرية والسلام العادل والانعتاق من الاحتلال والعيش بأمن وأمان كسائر أطفال العالم، وذلك في تساوق تام مع استهداف الاحتلال الإسرائيلي لأطفال فلسطين في حرب الإبادة المتواصلة منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023.
مخالفة للقانون والتشريعات الوطنية
أستاذ القانون الدولي في جامعة القدس، وزير العدل السابق محمد الشلالدة أكد لـ"وفا" أن تجنيد الأطفال لغايات سياسية أو عسكرية مخالف للقانون الوطني والتشريعات الوطنية والقانون الدولي الإنساني.
وأضاف أن دولة فلسطين يسجل لها أنها انضمت إلى العديد من اتفاقيات حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، والتزمت ونشرت هذه الاتفاقيات والمعاهدات في الجريدة الرسمية، بمعنى أنها أصبحت جزءا لا يتجزأ من التشريعات الوطنية الفلسطينية.
وأشار إلى أن الذي يحكم العلاقة بين المواطن والدولة هي التشريعات الوطنية والقانون الأساسي الفلسطيني والمعاهدات الدولية، وبالتالي أي تصرفات ممن يقوم بتجنيد الأطفال أو تعبئتهم سياسيا أو عسكريا تعتبر مخالفة قانونية للقانون الدولي، لأننا كحركة تحرر وطني نعتبر شخصا من أشخاص القانون الدولي ولنا حقوق وعلينا واجبات ونُسأل ونساءل أمام القانون الدولي، وبالتالي نتحمل المسؤولية القانونية، وعليه نحن دولة المواطن الفلسطيني "السلاح واحد والأداء واحد، ولك حرية التعبير مكفولة وفقا للتشريعات الوطنية الفلسطينية".
ونوّه إلى أن الإشكالية ليست عامة في الشعب الفلسطيني، ولكن لا بد من مواجهة هذه التصرفات من خلال نشر وتعزيز ثقافة التشريعات الوطنية الفلسطينية، حيث أننا أمام دولة قانون بغض النظر عن وجود الاحتلال، والذي يحكم العلاقة هو قانون العدالة والتشريعات الوطنية الفلسطينية والمعاهدات الدولية.
وشدد أن هذه التصرفات ممن يستغل الأطفال تعتبر مخالفة قانونية للتشريعات الوطنية الفلسطينية والمعاهدات الدولية، وبالتالي لا بد من وضع حد لهذه التصرفات وترسيخ سيادة القانون الوطني على الأرض الفلسطينية المحتلة، وأن أجهزة السلطة الوطنية الفلسطينية تعتبر الذراع الحامي للحقوق والحريات الفلسطينية.
وقال الشلالدة إن اتفاقية حقوق الطفل لعام 1989 التي انضمت إليها دولة فلسطين، إلى جانب اتفاقيات القانون الدولي الإنساني، كلها تضمنت نصوص قانونية تمنع وتجرم مسؤولية الدولة عن القيام بتجنيد الأطفال في المشاركة بالأعمال القتالية لأنهم لم يبلغوا سن الرشد، مشددا أن كل هذه الاتفاقيات أصبحت جزءا لا يتجزأ من التشريعات الوطنية الفلسطينية بعد نشرها في الجريدة الرسمية، وعليه نحن ملزمون كدولة فلسطين بإلزام مواطنينا بها نحو ترسيخ سيادة القانون الوطني والدولي.
وأكد الشلالدة أنه لا بد من نشر وتعزيز ثقافة القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان سواء في المدارس أو الجامعات، ولمعرفة مدى الآثار السلبية على هذه المشاركات المخالفة للقانون الوطني والقانون الدولي.
انتهاكات قانونية وإنسانية
مدير عام دائرة حقوق الإنسان والمجتمع المدني في منظمة التحرير الفلسطينية، قاسم عواد، أكد لـ"وفا" أن "استغلال اسم المقاومة لتحقيق مكاسب شخصية أو فئوية يُعرض حياة المدنيين للخطر، وينتهك كرامتهم، وهو ما يخالف المادة (1) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي تؤكد على أن (جميع الناس يولدون أحرارًا ومتساوين في الكرامة والحقوق)".
وقال إن "مؤسسات دولة فلسطين السيادية وأجهزتها الأمنية هي وحدها تتحمل المسؤولية عن ضمان سيادة القانون وحماية المدنيين، من الفوضى الأمنية، بموجب التزاماتها الوطنية والدولية في أراضي دولة فلسطين".
وشدد على أن استغلال الأطفال في النزاعات المسلحة، ينطوي على انتهاكات قانونية وإنسانية، ففي إطار القانون الدولي تؤكد اتفاقية حقوق الطفل (1989) على حماية الأطفال من كافة أشكال الاستغلال، بما في ذلك الاستخدام العسكري، ويحظر البروتوكول الاختياري لاتفاقية حقوق الطفل (2000) تجنيد الأطفال دون سن 18 عامًا واستخدامهم في الأعمال القتالية، ويصنف نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، تجنيد الأطفال أو استخدامهم في النزاعات المسلحة كـ(جريمة حرب)، وتفرض اتفاقيات جنيف والبروتوكولان الإضافيان (1977) حظرًا صارمًا على تجنيد الأطفال أو إشراكهم في الأعمال القتالية.
وأوضح عواد أشكال استغلال الأطفال، وهي: التجنيد القسري عبر إجبار الأطفال على المشاركة في القتال أو التدريب العسكري، واستخدام الأطفال كدروع بشرية عبر إجبارهم على التواجد في مناطق الخطر لحماية المسلحين، واستخدامهم في المهام اللوجستية لنقل الأسلحة أو توفير المعلومات الاستخبارية، والاستغلال النفسي والدعائي عبر توظيف الأطفال لإضفاء شرعية أو بعد عاطفي على الجماعات المسلحة.
جريمة تهدد مستقبل الأطفال
وأكد أن "استغلال الأطفال في النزاعات المسلحة ليس فقط انتهاكًا لحقوقهم، بل جريمة تُهدد مستقبلهم ومستقبل المجتمعات بأكملها"، مشددا على أن "التصدي لهذه الظاهرة يتطلب جهودًا محلية ودولية صارمة لحماية الأطفال ومحاسبة الجناة".
وفي سياق متصل، أكد عواد أن استخدام السلاح خارج إطار القانون يُعد إخلالًا بمبدأ سيادة القانون المنصوص عليه في المادة (2) من القانون الأساسي الفلسطيني، ويناقض التزامات الدولة بحماية الأفراد ضمن إطار القانون وإضعاف المؤسسات القضائية من خلال إعاقة عمل الأجهزة الأمنية والقضائية والذي يمثل خرقًا لمبدأ استقلال القضاء وحق الأفراد في الوصول إلى العدالة وفق المادة (14) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
وأشار إلى أن هذا السلوك يعزّز تقويض السلم الأهلي والمجتمعي، حيث أن الفوضى الأمنية تُؤدي إلى نزاعات داخلية تهدد الاستقرار العام، وهو ما يعارض المبادئ الأساسية في القانون الدولي لحقوق الإنسان التي تضمن حق الشعوب في العيش بسلام وأمان.
وقال عواد إن "الأخطر من ذلك، هو خلق بيئة إفلات من العقاب حيث يعزّز غياب المساءلة عن هذه الأفعال ثقافة الإفلات من العقاب، ما يتناقض مع التزامات الدولة بموجب القانون الدولي لإنفاذ العدالة وحماية حقوق الإنسان".
وأضاف: "يلجأ بعض الخارجين عن القانون إلى استغلال اسم المقاومة للقيام بأعمال تهدف إلى السيطرة على الواقع بقوة السلاح، في تحدٍ واضح للمؤسسات الأمنية والرسمية القائمة"، مؤكدًا أن هذه الممارسات تمثل تهديداً للسلم الأهلي، واعتداءً على النظام العام، وانتهاكًا واضحًا للقوانين الوطنية والدولية، ويؤدي إلى إضعاف المقاومة المشروعة، وإساءة استخدام اسمها بشكل يضر بشرعيتها الدولية ويشوه صورة النضال الفلسطيني أمام المجتمع الدولي".
وتابع أن "حالة الفلتان الأمني وما يرافقها من أعمال عنف وتعدٍ على الممتلكات تمثل انتهاكًا صريحًا للمادة (3) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي تنص على (حق كل فرد في الحياة، والحرية، والأمان على شخصه).
حرمة الاعتداء على المؤسسات العامة
بدورها، أصدرت الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان بيانا أكدت فيه، ضرورة التزام الجميع باحترام القانون الفلسطيني، وحرمة الاعتداء على المؤسسات العامة، خاصة المستشفيات.
وطالبت الهيئة المؤسسات الوطنية والأهلية والقوى الفاعلة في محافظة جنين التوافق على ميثاق وطني يضمن حرمة الممتلكات العامة والخاصة، ويحرّم استخدام السلاح في مواجهة قوى الأمن الفلسطينية والمقار والمركبات التابعة لها، ويشدد على احترام القانون الفلسطيني، وحل أية إشكاليات من خلال الحوار.
وفي بيان لاحق لها، قالت الهيئة إنها بدأت بالشراكة مع منظمات المجتمع المدني، بعقد سلسلة من الاجتماعات والاتصالات من أجل بلورة مبادرة مجتمعية وطنية تدعو إلى وقف الأحداث المؤسفة التي تشهدها مدينة جنين ومخيمها، والتي تشكل خطراً حقيقياً على السلم الأهلي.
وأكدت الهيئة ومنظمات المجتمع المدني على أهمية تغليب لغة الحوار كوسيلة لحل الخلافات، واحتواء الأوضاع الراهنة عبر وقف كافة مظاهر التصعيد بشكل فوري.
كما دعت إلى حماية الممتلكات العامة والخاصة، والعمل على استعادة الحياة الطبيعية في المدينة والمخيم، مشددة على أن هذه المبادرة تأتي كجزء من مسؤوليتها الوطنية والاجتماعية لمواجهة التداعيات السلبية المحتملة للأحداث الراهنة، مشيرةً إلى ضرورة تكاتف الجهود المجتمعية والمؤسساتية، لتجنب المزيد من التصعيد وضمان استقرار المجتمع الفلسطيني.