تُهم لا تُخجلّ- نائلة عطية
طُرق باب بيتي ، في حي بيت حنينا بالقدس صباحا في أحد أيام ما بعد رمضان 1997، وإذ بمجموعة نساء حزينات يبدو عليهن القهر، لباسهن طويل غامق من الرأس حتى أخمص القدمين ، ترافقهن أم موسى ريحان اعرفها جيدا منذ الانتفاضة الأولى.
كانت أم لأربعة أبناء من شباب الانتفاضة الأولى، سلامه وحمدي ومازن وموسى، اعتقلوا رفضا للحياة المذلّة واللجوء الأبدي! معبرين عن ذلك بضرب الحجارة !
هم سكان مخيم الأمعري للاجئين هُجّروا من مدينة اللد، كانت أم موسى تأتيني لاهثة ودائمة الابتسامة تتابع قضايا أبنائها الأربعة.. وحيث كان كل منهم معتقلا في سجن آخر . فتقضي الأيام تلاحقهم ، لتحظى برؤيتهم وهم موزعين بين سجن الفارعة ومجدو والظاهرية وأنصار 3!
و بينما هم جميعهم بالأسر وفي 18 آذار 1990 فُجّعت أم موسى ريحان، فقد قتل الجيش زوجها سليم " أبو موسى"، بعد خروجه من المسجد، كانت بيده قطعة حلوى يأكلها،
وقد خيمّ على المخيم أمر منع التجول ولم يسمع!
ادعى الجنود أنهم نادوه ..............ولم يسمع !
طلبوا منه التوقف......................ولم يسمع !
أطلقوا النار عليه .......................ولم يسمع!
فقسَمت عكازه الرصاصة الأولى وفجرّت الأخرى رأسه ، فسقط... و نزف حتى لفظ أنفاسه الأخيرة... لم يجرؤ أحد على الاقتراب منه حتى أبتعد الجيش عن الحي ّ.وبقيت تلك الحلوى في يده !
حُرم أبنائه من وداعه ! دُفن دون أن يروه !
كيف أنساها وكيف أنساهم؟! التقيتهم بالانتفاضة الثانية، رجالا باللجان الشعبية ، يوزعون المؤن ساعة رفع منع التجول على المحتاجين في المخيم...تهمة عوقب عليها الكثيرون في المحاكم العسكريه !
سلمّت بحرارة على النسوة ببابي. فعرفتهن أم موسى عليّ قائلة:
الأستاذة نائلة ! أنا و هي كما أخبرتكن سابقا... صديقات، وهي حنونة على الأولاد؟
أدخلتهن بيتي وسردوا لي ما حصل معهن فقالت احداهن :
اعتقلوا أبناءنا ليلة القدر قبل أسبوعين لأننا أتينا للقدس ! "والله اشتقنا للقدس".
وأردفت قائله:
سيحضرونهم اليوم للمحكمة الساعة العاشرة ، ستعقد لهم جلسة !
هدأت من روعهّن وتركتهن آم موسى ريحان وعادت الى رام الله وأخذتهن معي للمسكوبيه لمحكمة الصلح القريبة من سجن الأولاد..
حيث يحضروا مشاة إلى القاعة!
طلبت من إحداهن أن تقول لي ما الذي حدث أثناء السفر، فحدثتني
وهي تمسح دموعها قائلة :
أنا أم أيمن، في ليلة القدر تسلّلنا قادمين من المخيم لزيارة القدس والصلاة. وكانوا معنا أبناؤنا الصغار. منهم أربعة، لكل أم فينا ولد، لم تتجاوز أعمارهم الخامسة عشرة...لم نعرف انهم سيعتقلوا لهذه الفتره كونهم لم يستصدروا تصريح للقدس!؟ ونحن جارات أم موسى ، نقطن مخيم الامعري ..نتسّلل لنصل لهنا..فنتسلق الطرق الالتفافية الترابية كما تعلمين من ضاحية البريد.
وصلنا لباب المحكمه ولم نكد ننهي حديثنا حتى رأيت مجموعة من السجانين تجّر أربعة شبان صغار باتجاه المحكمة، كل اثنين بنفس السلسلة ، اليد باليد والرجل بالرجل مكبلين، يبدو عليهم الخوف، وقبل أن اسألهن فيما إذا كانوا هم أولادهم..صاحوا الأمهات مناديات متهافتات باتجاههم.
صّدهم السجانون بقسّوة، دافعين النسّوة بالقوة ،مانعين تلامسهم.
فصديّتهم بدوري صارخة بوجوههم : أنهم أمهات وليسوا دواب .لا حاجه لدفعهم !
اُدخلوا الأربعة إلى قاعة القاضي المناوب شتراوس، بالطابق الأرضي بثالث باب على ناحية اليمين.
دخلت معهم واقتربت منهم مُعرّفّة على نفسي . فلاحظت الكدمات والدم على وجه اثنين منهم، وعلى يد الثالث جروح من مخالب جندي من حرس الحدود تمتموا بخوف واخبروني قائلين:
"لقد انهالوا علينا بالضرب ،حين انقضوا علينا ونحن في منطقة الباب الجديد على مداخل شارع يافاّ واعتقلونا .كدّسونا كالخراف بسيارة جيب تابعه لحرس الحدود.".
فطلبت من القاضي إعلان الاستراحة ،قبل جلسة تمديد الاعتقال ،لأني أود التحدث معهم ، والاطلاع على الملف قبل المرافعة ، ولن اقبل بطلب الادعاء المقدم بتمديد الاعتقال حتى إنهاء المحاكمة؟!
طبعا حاولن ثانية بعد خروج القاضي أن تعانق الأمهات بلهفة أبنائهن وصّدوا من جديد.حاولت مرارا أن أقنعهم بأنهم قصّر، ولأول مره يعتقلوا والقضية بسيطة..فأجابوا بان التعليمات تقضي بذلك. لأنهم من " أبناء الأقليات" التعليمات أن لا يتلامسوا ويكتفوا بالسلام من بعيد !.
جلست في وسطهم لأسمع منهم ما حل بهم، بينما طلبت من ممثل النيابة لائحة الاتهام لأتصفحها.
أخبروني أثناء الدقائق التي خرج بها القاضي لاستراحة، أنهم ومن لهفتهم وشوقهم لرؤية القدس ليلتها..تسللوا إلى الأقصى مع أمهاتهم لقضاء ليلة القدر .وحين وصلوا شاهدوا كيف امتلأت باحة الأقصى وغصت بالمصلين..فقالوا لأمهاتهم :
إنهم سيصّلون قليلا وسيخرجون ليتجوّلوا بالقدس القديمة، فالله اعلم متى يعودوا إليها ليروها ؟ فهي قريبه ويروها بعيده؟!
فمنذ أن أغلقت مداخل القدس وحُوصرت بالحواجز العسكرية، منذ حرب الخليج وبعدها " اتفاق أوسلو" والناس يعانون من صعوبة التواصل مع القدس، وهم يعتقدون انه فقط بعد السادسة عشرة ممنوع الدخول، فرغبوا باستغلال الفرصة!.
تصفحت لائحة الاتهام ، وإذ بي اقرأ انه تم اتهامهم بتهمتين الأولى القيام بمحاولة الاغتصاب !!؟ والثانية المكوث غير قانوني بالقدس، بلا تصريح بذلك!
أما حيثيات التهمه الأولى فهي تتلخص بأنه وفي الثانية عشرة ليلا.. تم الاعتداء على صبيه اسرائيليه ، حين غسلت يديها في المرحاض خلف المقهى، وهمت لتعود للمقهى، الذي يقع في نهاية شارع هللّ الموازي لشارع يافا في مركز القدس الغربية.
وقد اشتكت أن مجموعه من الصبية العرب هاجموها في الممر المعتم ولامسوها في جميع أنحاء جسدها وحاولوا اغتصابها!
دخل القاضي فقدم المدعي طلبا لإبقائهم معتقلين حتى إنهاء الاجراءت القانونية. وطعن قائلا:
أنهم خطيرون على الأمن والنظام، إذا أطلق سراحهم حتى المحكمة سيهربون كونهم من الضفة، ومن الصعب إحضارهم إلى المحاكمة، فيما لو أطلق سراحهم بالكفالة، مضيفا: فهم سيهربون للمخيم..وهو المخيم الذي ليس من السهل لقواتنا اقتحامه واسمه " الامعري"!
وأضاف أن الأدلة قاطعة وكافية رغم إنكارهم الفعلة فالشاكية شخّصتّهم، وتعرفت على ملامح أحدهم جيدا..!
أما أنا فقد رفضت هذه الادعاءات ، وادعيت أن الأدلة غير كافيه، والتشخيص غير كاف ، وأنهم ينكرون تواجدهم في المكان وبالتالي أيضا ينكرون الفعلة الموجهة لهم ، وأنهم لم يبتعدوا عن أبواب القدس القديمة وتجولوا فقط في محيطها.
وطالبت بإطلاق سراحهم بكفالة أمهاتهم، فهم قاصرون ولا أي أذى جسدي حصل ؟وهم ينكرون التهمة الموجهة إليهم ما عدا القدس التي يرفضون التسليم بأنهم ممنوعين أن تطأها أقدامهم ولكل واحد فيهم ام تجلس في القاعة ، على استعداد لتوقيع تعهد بإحضار ابنها للمحاكمة ، مع إمكانية إيداع ماديّ ، وأن عنواني عنوانهم في القدس للدعوات
لم أبق للقاضي مخرجا، فكل ما قلته أمامه صحيح،
فقضى بإطلاق سراحهم بكفالة أمهاتهم ودفع خمسة آلاف شاقل حتى إنهاء ألمحاكمه لاحقا.
حقيقة كان من الصعب بداية تجنيد المبلغ..فبقوا بالسجن يومين حتى تدبروا الأمر ومنهن من باعت ذهبا من صيغة عرسها!
وهكذا أطلق سراحهم .وحملتهم بسيارتي لأهلهم، فاستغّليت الظرف وتجوّلت بسيارتي ليشاهدوا القدس ويودَعوها..لأنه ستمر الأعوام دون أن يسمح لهم بدخولها..فمن يسجل ضده ملف..من المستحيل أن يسمح له لاحقا دخول القدس!.
استلمت دعوة الجلسة ، فكانت الجلسة محدده أمام قاضي الأحداث وهو لأكثر من عشرين عام ، القاضي بن دور في محكمة صلح القدس بالمسكوبية..بالغرفة الأولى على الناحية ليسرى لمدخل المحكمة.
كل شيء قديم بالقاعة الضيقة ومهترىء وخشبه متفتت، ودائما مكتظة.
حضرنا الجلسة القراءة ..فقرأت أمامهم لائحة الاتهام ! وأنكرت باسمهم ما جاء فيها وأسهبت بالرد .
فطلب المدعي إثبات التهمة ، بحيث نبدأ بسماع الشاهدة المشتكية أولا
وهكذا كان.
أعدتهم بعد شهور لسماع الشاهدة المشتكية، من طرف الادعاء، ومن طرفنا علمتهم جيدا كيف يقولون الحقيقة دون خوف..
ففي صباح الجلسة اتفقت مع الأمهات أن نخبئ الأولاد وقت شهادة المشتكية حتى تنتهي من إدلاء شهادتها!
فأخذتهم جميعا إلى المقصف وطلبت أن لا يخرجوا وأن لا يتحركوا إلا بعد أن أناديهم واحدا واحد!
لم يفهموني ولكنهم أطاعوني.!
تركتهم مع أمهاتهم وعدت للقاعة متحمسة لنقاشها حول ما حصل معها وان كان صحيحا، فكيف تعرف إنهم هم ؟
لم اقل لأحد إني من قراءة إفادتها علمت أنها تدعي أن احدهم اسمر اللون واسمه أيمن وهي متأكدة أن عيناه خضراء غامقة !
قرر القاضي أن يسمح بعدم مثولهم حتى تنهي المشتكية الإدلاء بشهادتها.بعد ان سمعني بالرغم من اعتراض المدعي وإصراره أن يتواجدوا على مقاعد المتهمين وفقاّ للقانون !فهو يعرف جديتي من سنين طويلة ولا يمكن ان اطلب ذلك عبثا بل قصدت من ورائه ما سيعرفه لاحقا!
بدأت جلسة سماع شهود النيابة ، وكانت هي الشاهدة المركزية ، حيث لم يجدوا أحدا غيرها يدعي رؤيتهم ، في مكان الحادث !
استرسلت الشاكية حول موضوع الاعتداء وما حصل معها بتلك الليله، وحين بدأت بشرح أوصافهم وفعلتهم ، ذكرت أنها ميّزتهم رغم الظلمة بأنهم عرب!
فصححها القاضي "من أبناء الأقليات"!
وأضافت: أنها تذكر أحدهم كان اسمر، وعيونه خضرا غامقة!..وسمعت في التحقيق اسمه فقد نادوه باسم "أيمن". وهو أشد من ضايقها، أما البقية فليس لديها ما تصفه بالإضافة للقومية إلا اللون.."كلهم سمرّ وكانوا معه"!
أنهت وصفها وأدمعت عيناها..وطلبت كأس ماء ..وبعد أن شربت وهدأت ، أكملت إفادتها حتى أنهتها.
فسألتها غاضبة مستهزئة: كيف استطعت بالظلمة أن تميزيهم عربا ! فأنت لم تسمعيهم ولم تريهم بالظلمة ..! أمن رائحتهم؟!
وكيف ميزت لون العينين الاخضر الغامق وعرفتي اسمه فأجابت انه بعد ان اعتقلوهم لمحته ينتظر التحقيق خارجا وسمعت الشرطه ينادوه لدخول غرفة التحقيق فربطت الاسم بلون العينين
ارتبكت وعادت على وصفها وغادرت القاعة.
وبدا على القاضي التأثر وسألني ..ألا تصدقيها ؟
فأجبته:ممكن أنه حصل..ولكن لسنا نحن و هذا تشخيص غير مقبول!
بعد الاستراحة طلبت من القاضي أن يسمح لي بإدخال الأولاد للإدلاء بالشهادة حول ما حصل معهم بتلك الليله ! واحدا واحدا ،دون أن نسجل أسماءهم ،رغم اعتراض المدعي ، إلا بعد أن نوثق بمحضر الجلسة لون عينيه!؟..بحثا عن الأسمر صاحب العينين الخضراء الداكنة واسمه أيمن!
و هكذا ناديت على أم أيمن، وطلبت منها أن تبقي الأيمن للآخر وتحول لي الشباب واحدا واحدا..
فأتى الأول وأدخلته للقاعة، وطلبت من القاضي بعد أن قربته إليه حتى مسافة اقل من نصف متر.
قائلة: سجّل من فضلك بالمحضر لوّن عينيه؟
بحلّق القاضي بعينيه وسجل قائلا : بني داكن !
فأعطيته الاسم ليكتب بالبرتوكول، وحذره بأن يقول الحقيقة وإلا سيعاقب على إعطاء شهادة كاذبة !
أدلى بشهادته الأول، حول ما حصل معهم في تلك الليلة، حتى اعتقالهم سوّية ! وأنهم لم يدخلوا شارع يافا، ولم يصلوا لشارع هلل ولا يعرفوه حتى!
خرج الأول وأحضرت الثاني، واقترب من القاضي، وسجل الأخير لون عينيه قائلا :.اسود!
فحذر لقول الحقيقة وسرد حيثيات ما حصل معهم وأجاب على الأسئلة وخرج.
وهكذا الثالث، اقترب من القاضي فسجل قائلا: بني فاتح !
وعاد على أقواله بالتحقيق ، فأنكر التهمه ولم يفهم لماذا ممنوع أن يدخل القدس .!؟
وخرج من القاعة.
ابتسم المدعي فرحا قائلا :
لقد وصلنا إلى من سيربطهم جميعا بالفعلة وعلى الأقل يربط نفسه!
نظر القاضي إليّ مبتسما قائلا:
أبقيت لنا أيمن للآخر..أًدخُلي يا أستاذة نائله أبو عيون خضر!
دخل أيمن ،ووصل أمام القاضي ،والقاضي يحدق في عينيه باحثا عن اللون الأخضر وإذ به يصيح:
أين أيمن؟
أين أبو عيون خضر يا استاذه نائله !
وضرب بقبضتيه على جانبي مكتبه
قائلا :أن هذا اسود داكن!
واُعلنت براءتهم من التهمه !..
واستعادوا ايداعاتهم المالية.
وكتبت عن البراءة الصحيفة المقدسيه ملحق هأرتس يوم ألجمعه " كول هعير" تحت عنوان " بحق العيون السود".
وصادفتهم بعد ثمانية أعوام خلف القضبان بالمحكمة العسكرية في الانتفاضة الثانية. بمعسكر عوفر غرب رام لله..
وقد أصبحوا رجالا بتهم لا تخجلهم !