لغم في الطريق إلى الأغوار
عميد شحادة
نشبت الحرب لا محالة، انطباع يصيبك إذا مررت بقرية تياسير إحدى العواصم الكنعانية القديمة المغروسة في منحدرات الجبال الخضراء شرقي مدينة طوباس في الأغوار الشمالية، والتي تؤوي ثلاثة آلاف غوري.
ترى الجنود يصبغون بأجسادهم السهول المحاذية للشارع، والطائرات لا تفارق الأجواء، وهدير الدبابات لا ينقطع، وعندما تضغط المفاجئة بقدمك على مكابح السيارة لتتوقف، لن يسعفك نقل إبرة المذياع من محطة إلى أخرى بمعلومة تؤكد ما تراه أو تنفيه، تشعر حينها أن الإعلام في واد والأغوار في واد آخر، وتظل مذهولا إلى أن يرمي طفلٌ تياسيريٌ برأسه من شباك سيارتك، "عادي عادي، هاي تدريبات عسكرية".
التدريبات العسكرية والألغام في قرى الأغوار حربٌ جعلت للسياسة تعريفا مختلفا في تياسير، هي إجابة على سؤال، هل يستطيع كمال صبيح (30 عاما) تقليم أظافره من جديد، ولماذا؟.
يقول كمال الذي لم يكف عن التلويح بيديه أثناء الحديث "لغم، لغم جيش، حكومة إسرائيلية، لغم أسود، كنت صغيرا لا أفهم شيء، لغم جيش"، وراح يقلد صوت الانفجار "بُم"، وقد مد الميم إلى آخر نفسٍ في صدره، وفتح ذراعيه السليمة وتلك المبتورة على وسعهما ليرسم حجم الجريمة، كانت كبيرة.
كان كمال إنسانا عاديا، قبل أن تشوهه قنبلة خلفها جنود الاحتلال الذين اختاروا قريته الزراعية مكانا لتدريباتهم العسكرية، لم يكن قد تجاوز الخامسة عشرة حين رأى يده ترقص بدمائها على صوت الانفجار، هو واحد من خمسين ضحية في قرية تياسير، معظمهم أطفال.
يقول كمال دراغمة عضو مجلس قروي تياسير وقد حصدت القنبلة إبهامه عندما كان طفلا: "إصابتي كانت في يدي اليسرى، وقدمي اليمنى، الجسم المشبوه الذي مسكته بيدي يغريك لتمسكه، كان بشكل مزهرية الورد، قرر الأطباء بتر قدمي، لكنني دفعت مبالغ من المال ليتم علاجي بالشكل الصحيح، والحمد لله لم يبتروها، لكن للأسف فقدت أبهام يدي اليسرى".
زحف الجنود الإسرائيليون في حرب حزيران 1967 إلى قرية تياسير، زرعوا أقدامهم السوداء وأكثر من واحد وخمسين حقل ألغام في المناطق الفلسطينية معظمها في الأغوار، لتصبح القرية من حينه منطقة عسكرية مغلقة، مثلها مثل 46% من مساحة الأغوار.
مئات الدونمات في منطقة تياسير ووادي المالح مزروعة بالألغام ومخلفات جيش الاحتلال الإسرائيلي التي تحصد سنويا أطراف المزارعين والرعاة والأطفال، وأحيانا أرواحهم.
من حقل قمح يتمرغ فيه الجنود، يقول الطفل حسين عقاب من قرية تياسير وقد كشف عن جرح أزرق عميق في قاع صدره: "ذهبت وأصدقائي إلى بيت عمي في الغور، وعندما عدنا سبقني أصدقائي للقرية، رأيت جسما بشكل البيضة، كان مغريا للمس، أول مرة في حياتي أشاهد هذا الشيء، حتى أنت يجعلك تقترب منه وتمسكه بيدك، مسكته بيدي، ضربته بالحجر، فانفجر".
بدا الطفل عقاب مرتبكا، يلتقط نفسه بين كل كلمتين تقريبا، ولا يكاد ينهي جملة دون الالتفات للجنود النائمين القائمين في السهل خلفه، وبعد سؤال حول شعوره في اللحظة التي لا يبعد فيها عن الجنود عشرين مترا، التفت لهم مطولا ثم شهق كل الهواء من السهل وزفر القليل منه، مستذكرا مقولة الطبيب "القنبلة هشمت رئتك".
على غير عادتهم بدا الجنود هادئين أمام الكاميرا، أحضروا كاميراتهم وأخذوا يلتقطون لنا بعض الصور، ضحكوا وانصرفوا، هم الذين روى لنا أهالي تياسير بشغف متقطع كيف قتلوا ذيب محمود ابن قريتهم بست رصاصات في الظهر والرقبة، كان يحرث أرضه بحصانه، كانوا يتدربون بالمدفعية واتخذوا من ظهره هدفا، صوبوا... وانتهى الأمر.
لم ينته الأمر، من ذات السهل الذي يتشمس في خضاره الجنود، يقول محمد عامر عضو مجلس قروي تياسير: "قد يكون هؤلاء الجنود قد أسقطوا من عتادهم بقصد وبغير قصد بعض الأشياء التي يكون أطفالنا أو المزارع صاحب السهل عرضة لها، وبالتالي يسببون لنا الكثير من المآسي، هذا ما يحصل في قريتنا، وللقرى المجاورة نصيب كبير أيضا من هذه الحوادث".
كمال وقبل أن نغادر بيته، طلب مني مبادلة قدمي السليمة بقدمه التي قطعت القنبلة أصابعها مقابل مبلغ كبير من المال لا يملكه، وقال إنه يخشى أن يموت قبل أن يمشي.
مشينا وأطفال تياسير خلفنا يلعبون بمحاذاة الجنود، لم يصوبوا على صدور الأولاد، ربما سيتركون لهم أشياء يعبثون بها، تجعلهم يعيشون بقية حياتهم زحفا.