"الإعدام البطيء"
جيفارا سمارة
لا تبالغ كفاح في وصفها للإبعاد بأنه "أبشع الانتهاكات... فهو إعدام يستنفد روح المبعد ويخنقها ببطء تحت وطأة القهر وثقل الحرمان والتشرد.. إنه الأسوأ".
فالإبعاد لم يغب عنها لحظة خلال سنوات عمرها التي ناهزت الخمسين، فقد خبرته وليدة في مخيم للاجئين، طفلة في الثالثة ابعد الاحتلال شقيقها الأكبر، شابة ابعد الاحتلال شقيقها الآخر، زوجة أبعدت مع زوجها، أمًا لطفلين، زوجة لشهيد قضت عليه سنوات ثماني من الإبعاد هي في فلسطين وهو مبعد خارجها.
"رغم كل هذه المشاعر..إلا ان الكلمات تخونني لوصف بشاعة الإبعاد...سجنت، فرضت علي الإقامة الجبرية.. لكن بشاعة المحتل تظهر على حقيقتها في الإبعاد"، تقول كفاح حرب من مخيم بلاطة بالقرب من مدينة نابلس.
وتروي حرب أولى محطات تجربتها مع الإبعاد في سبعينيات القرن الماضي، قائلة "كنت في الثالثة ولم أكن أدرك معنى الإبعاد إلا ان الخوف والجزع الذي سكن قلب والديّ اللذين ابعد الاحتلال نجليهما إلى الأردن من سجنه دون أي بلاغ، كان كافيا لاختبر معنى العذاب لهذه الكلمة في أولى تجاربي معها، لأكون على موعد آخر معها بعد حوالي عشر سنوات بإبعاد ثانٍ لشقيقي الآخر إلى خارج الوطن أيضا".
وتضيف حرب "بعدها بسنوات تزوجت من عبد الله داوود الذي نشأ يتيما، واعتقل الاحتلال شقيقه الأكبر أيضا "بتهمة" تشكيل خلية مسلحة، والذي ابعد هو الآخر على اثرها إلى الأردن في ذات الفترة التي ابعد فيها شقيقي الأكبر".
وتتابع، "في عام 1992 عقب حصار جنود الاحتلال لعدد من كوادر العمل الوطني في جامعة النجاح لعدة أيام، ازدادت فيها أوضاع الطلبة صعوبة شيئا فشيئا، وخشية منهم على مصير الجامعة والطلاب ان اجتاحت قوات الاحتلال حرمها، آثر زوجي (عبد الله) ومن معه من المحاصرين الخروج فكان الإبعاد الأول بعد ثلاث سنوات من زواجنا، إلى الأردن قضينا فيه 3 سنوات بعيدا عن الأهل والأصدقاء".
وتضيف حرب "عام 1995 كان أشبه بعودة الروح إلى الجسد، ففيه عدنا إلى الوطن والأهل والأصدقاء بعد قيام السلطة الوطنية، إلا ان تلك السعادة لم تدم طويلا، فقد كان وحش الإبعاد يتربص بنا طوال عامين قضاهما عبد الله مطاردا ومطلوبا للاحتلال مع اندلاع انتفاضة الأقصى، ليكون العام 2002 عاما اسود جديدا وفصلا آخر من فصول الإبعاد".
وتتابع، "ومع الاجتياح الإسرائيلي لمدينة بيت لحم عام 2002، حيث انتقلنا للعيش هناك بعد تعيين عبد الله مديرا لمخابرات المدينة، فبعد ما وضعت آلة الحرب كامل ثقلها في اجتياح المدينة، التجأ المقاومون إلى كنيسة المهد ليحاصروا فيها مدة 40 يوما زاخرة بالخوف على مصير عبد الله ومن معه بعد تواتر الأنباء عن ارتقاء العديد منهم شهداء، لأنتقل مع طفلي (هبة، ويوسف) في ذلك الوقت للسكن عند احد الأقارب ليس ببعيد عن الكنيسة، وخشية من اقتحام منزلنا ونحن وحيدون فيه".
وتشير حرب إلى العاشر من أيار/مايو؛ اليوم الذي تقرر فيه إبعاد 26 من المحاصرين إلى قطاع غزة، فيما ابعد 13 مبعدا آخر إلى قبرص ليتم توزيعهم من هناك إلى دول أوروبية، وكان عبد الله احدهم إلا ان أوروبا رفضت استقباله بعد تحريض إسرائيلي مفاده "لا تستقبلوه انه الإرهابي الأخطر".
وتقول، "وبعد رفض أي من تلك الدول استقباله، قبلت موريتانيا استقباله لنبعد هذه المرة مجددا بظروف أصعب واشد سوءا، خاصة مع طفلين فرض عليهما الإبعاد مع والدهما فترة عامين ونصف في ظروف نفسية سيئة سلخا فيها عن أهلهما ووطنهما وكل ما عرفاه يوما، وفي ظروف معيشية أشبه بالمعتقل كنا فيها في مدينة نواذيبو بعيدين عن العاصمة حوالي 500 كم، كنا نضطر معها للسفر بالطائرة إذا ما أردنا الذهاب إلى العاصمة".
وتشير حرب إلى انه ومع اقتراب موعد عودة مبعدي كنيسة المهد إلى ديارهم بحسب الاتفاق بين إسرائيل والسلطة الوطنية والذي نص على عودتهم إلى وطنهم عام 2005، عدت أنا والطفلان إلى الوطن بانتظار عودة عبد الله، ليكون وقع تنكر الاحتلال لوعوده بالسماح لهم بالعودة علينا كالصاعقة.
وتقول حرب، "عشنا بعد ذلك 5 سنوات عجاف مظلمة كنت فيها الأب والأم والزوجة المبعد زوجها غريبة وانا في وطني وبين أهلي، يجتاحني الخوف على زوج سبب له حزن الإبعاد وكمده، انفجار الشريان الابهر قضى بعدها 4 أيام يصارع الموت بمستشفيات الجزائر التي قضى فيها 5 سنوات وحيدا يعتصره ألم البعاد".
كفاح والتي كان لها من اسمها نصيب، آلت على نفسها ان تتذوق مرارة الإبعاد وألمه، فشرعت بإطلاق حملة "إحياء" لإعادة مبعدي كنيسة المهد، بعد عودة زوجها عبد الله داوود لوطنه شهيدا بعد 8 سنوات من النفي والإبعاد.
وتقول حرب إن "الإهمال الرسمي، والفصائلي، وضعف الاهتمام الوطني بقضية المبعدين، هو ما شجع الاحتلال على عدم السماح للمبعدين بالعودة إلى ديارهم، وكانت أولى نتائج ذلك إصراره (الاحتلال) على إبعاد عدد كبير من الأسرى المفرج عنهم في صفقة تبادل الأسرى الأخيرة إلى خارج الوطن، وغريب ألا يعي الجميع ان أمنية الأماني للاحتلال الصهيوني هو ان تخلو هذه البلاد من أهلها؟".
مبعدو كنيسة المهد: إلى خارج الوطن الشهيد عبد الله داوود عبد القادر، محمد سالم، جهاد جعارة، رامي الكامل، عنان طنجة، احمد حمامرة، ابراهيم عبيات، خليل نواوره، خالد ابو نجمة، ابراهيم العبيات، محمد مهنا، ممدوح الورديان، عزيز عبيات، إلى قطاع غزة: اياد عدوي، رامي شحادة، زيد سالم، سامي سلهب، سليمان النواوره، سلطان الهريمي، صامد خليل، عيسى ابو عاهود، ناجي عبيات، نادر ابو حميدة، ياسين الهريمي، جواد نواوره، حاتم حمود، حسن علقم، خالد المناصرة، خالد صلاح، رائد شطارة، رائد عبيات، فراس عودة، فهمي كنعان، مازن حسين، جمال ابو جلفيف، مجدي بعنه، محمد خليف، موسى شعيبات، مؤيد جنازره.