الصواريخ تمزّق الجد وتقتل الفرحة بالحفيد مؤيّد
رشا بركة
في إحدى زوايا منزل جده أبو صالح يجلس محمد كامشا جسده الصغير وواضعا رأسه بين قدميه، وقد انهالت دموعه البريئة حزنا على جده، فهو لن يلاعبه بعد اليوم ولن يأخذه معه إلى الدكان ليشتري له الحلوى والشيبس.
فرغم أن محمد لم يتعَدَ السادسة من العمر، إلا أن حبه الشديد لجده الحنون وتعلقه به جعله يتعرض لصدمة حينما عاد الجد ملطخا بالدماء وساكنا لا يتكلم ولم يقبله كما كان يفعل في كل عودة له من عمله إلى المنزل.
واستشهد الحاج عادل صالح الإسي (59 عاما) ظهر الأحد في قصف إسرائيلي استهدف بيارة الوحيدي في شارع النفق وسط مدينة غزة، والتي يعمل حارسا فيها.
وفجع أفراد عائلة أبو صالح بحال محمد وردة فعله على استشهاد جده، وأخذ الجميع يحتضنونه ويبكون بشدة، ومحمد يقول لهم "رأيت الزنانة بعيني وهي تذهب لتقتل جدي، أنا رأيت الصاروخين وعرفت أنها ستقتله".
وينقل هذا الطفل بصوت ممزوج برجفة المشهد جراء استشهاد جده، قائلا: "أنا رأيت الطيارة تذهب بعيدا، وكان أبي يقول لجدّي في الجوال تعال ارجع وهو لم يرجع ولم يخف من الطيّارات".
ويتابع "رأيتهم يبكون والأولاد يرمون حقائب الروضة، فرحت أجري معهم ورأيت جدي وبطنه مقطوع من الصاروخ وأسنانه مكسورة، وخفت وسرت أناديه وهو لا يتحرك أبدا".
بأي ذنب قتل!
ولم يكن محمد وحده من بكى جده، فرهف وعادل الصغير وبقية الأحفاد لم تتوقف أفواههم عن سيرته، والسؤال عنه، وما إن كان سيعود من الجنة إلى هنا ليشتري لهم الحاجيات والحلوى؟.
وتروي زوجة الشهيد أم صالح الإسي آخر مُكالمة لها قبل استشهاده بدقائق، وتقول "اعتاد أن يخرج كل يوم من بعد صلاة الفجر إلى عمله لحراسة البيارة، واتّصلت عليه الساعة 8 ونصف صباحا لأطمئن عليه بسبب القصف، وكلمني وقال إنّه بخير وطمأننا عليه".
وتضيف" محاولة إخفاء صدمتها "سمعت صوت قصف فخفت وعدت أتصل به الساعة 9، فكان الجوال يعطيني مشغول، وأخذت أعيد الاتصال حتّى رد عليّ صوت غريب، فسألته عن أبو صالح، فقال لي: "لقد استشهد الحاج احتسبيه عند الله".
ولم تستطع أم صالح (55 عامًا) أن تكمل حديثها مع استحضارها لصدمتها، وبعد حين رددت "رجل مسن ورب أسرة، ويخرج ليأتي برزق أولاده في ساعات المساء، هل هذا ذنب أو جريمة ارتكبها حتى يقتل بهذه الصورة؟!".
سيرة طيبة
ويُعرف "أبو صالح" بين جيرانه وأهل حيه بسيرته الطيّبة وروحه الخفيفة ورقته في معاملة الناس، إضافة لحبه وسعيه الشديد لعمل الخير ومشاركة الناس بالأفراح، وهذا ما جعله يلقب بين أهل الحي بـ "الكبير".
وتنقل زوجته كظمه للغيظ على الشهداء الذين سبقوه، "هو قليل الكلام ولم يؤذ أحدا طول عمره، حتى لما رأى شهداء العدوان قبل يومين كان ينظر صامتا، لكن عيونه تكاد تنطق من شدة احمرارها وحرقة قلبه على الشهداء".
وتشير إلى سعيه الدائم لإسعاف المصابين والشهداء في الحرب، مستحضرة موقفه من مجزرة عائلة الجدبة، حيث هرب الناس من الصواريخ، لكنه الوحيد الذي ركض ليسعف من بالبيت، والناس تناشده بأن يعود حتى لا يصيبه القصف المستمرّ.
ويكاد بيت عزاء أبو صالح أن يكون كتابا يروي صفحات حياته وسيرته الحسنة بين الناس الذين اكتظت بهم خيمة العزاء، وبدؤوا يستحضرون مواقفه الشجاعة والمرحة بلا توقف.
استقبال ووداع
وفي خيمة والده يجلس صبري (20 عامًا) ابن أبو صالح الأصغر والمتبقي عنده من أبنائه الستة المتزوجين، وقد أنجاه طلب والده له بمغادرة البيارة من الموت المحقق قبل دقائق من سقوط الصاروخ.
يقول وقد بدا وكأنه طفل متعلق بوالده "ذهبت إليه في الصباح كالعادة لأجلس معه ونتسلى مع بعضنا، ولم أجلس إلا دقائق فطلب مني الرجوع للمنزل عند أمي وأخواتي وأن آتي إليه بعد الظهر".
ويتابع "ما هي إلا دقائق من وصولي للبيت وإذا بخبر أن أبي استشهد، كانت صدمة كبيرة لأني كنت معه قبلها، وكل يوم أذهب هناك إلا هذا اليوم أرجعني وكأنه كان يعلم بأنه سيستشهد".
ويلفت إلى أنّ إخوة وأبناء وأصحاب والده اتصلوا عليه وطلبوا منه أن يعود ولا يذهب إلى البيارة بسبب الوضع السيء والقصف، لكنه كان يرفض ويتجاهل كل هذه الطلبات.
ويقول بفخر: "تفاجئت أنا وإخواني بأعداد الناس التي تأتي للعزاء، والكل يتحدث عن سيرة أبي ومواقفه في الأفراح والأعراس وفي مساعدة الناس، وكيف كان يجمع الأصحاب في بيارته كهذه الأوقات مع بداية الربيع والصيف".
وقتل الاحتلال باغتياله للجد أبو صالح فرحة عائلته بحفيدها مؤيد الذي استقبله جده قبل أقل من أسبوع بفرحة وغنى له، غير ظان أنه مودعا له ولعشرة أحفاد أخرين أبكت قلوبهم البريئة هذا الجد الحنون.
صفا