ثلاثة عشر قرناً من انقطاع الكهرباء
يمُرُ علينا أكثر من الشهر على أزمة -انعدام الحياة-، عفواً أقصد انقطاع الكهرباء في قطاعِ غزة، ومن لا يعرفُ التفاصيل جيداً، أقول أن هذه الأزمة تتمثل في انقطاع التيار الكهربائي يومياً لمدة 18 ساعة، وبالتالي نحنُ لا نحصل على تيار كهربائي أكثر من 6 ساعات يوميا.
حسابات كهربائية:
إذا كان الإنسان الطبيعي ينام يومياً لمدة 8 ساعات، فهذا معناه 240 ساعة نوم شهرياً، مما يعادل ال10 أيام من أصل 30 يوم (شهر)، ويحصل على (20 يوم) من الحياة والعمل !
في قطاع غزة تنقطع الكهرباء لمدة 18 ساعة يومياً، ما يعادل 540 ساعة شهرياً، لو خصمنا منها 240 ساعة نوم ( المعدل الطبيعي)، سيتبقى 300 ساعة من العدم !
بطبيعة الحال الـ(300) ساعة تعادل 12.5 يوم شهرياً، وهو عدد غير قليل، إذ أنه يمثل أكثر من 40% الشهر، بما معناه وتسهيلاً على القارئ، فإن 40% شهرياً في حياة المواطن الغزي هي معدومة ولا تمثل له أي نوع من أنواع الحياة الطبيعية لأي إنسان !
قد يكون الرقم غير صادم للقارئ، ولكن لو اعتبرنا أن عدد سكان قطاع غزة هو مليون ونصف، وطرحنا منهم نصف مليون أطفال غير واعيين، يبقى عندنا مليون مواطن واعيين لانعدام الحياة والموت البطيء الذي يعانون منه.
بعملية حسابية بسيطة نجمع عدد الأيام المعدومة لكل مواطن غزي واعي، سينتج عندنا 12.5 مليون ساعة من الموت والعدم شهرياً، ما يعادل 50 ألف يوم، وهو بالتالي يساوي ما يقارب الـ 1369 سنة، وما يعادل تقريباً الـ13.6 قرن من الزمن !
شهرياً يفقد قطاع غزة 13 قرن من الزمن والطاقة والإنتاج البشري والحياة الطبيعية الآدمية، 13 قرن من العدم شهرياً تذهب هباءً منثوراً في الظلمةِ والعتمة، وتذوب مع ذوبان الشموع التي تكافحُ في بيوتِ القطاع.
أن نتكلم عن الكهرباء والوقت، ليس رفاهيةً، ولكن محاولة للمقارنة بما أنجزتهُ الشعوب في مئات السنين التي مضت من عمرها، ولو فكرنا قليلاً في الأزمة الكهربائية سنجد أنها لو انقطعت نصف شهر آخر، سوف نكون قد أضعنا ما يقارب ال20 قرن من الزمن في الهواء، 20 قرن هي عمر الحضارة الإنسانية بعد الميلاد، ملايين القوانين والمباني ومئات الدول أخذت استقلالها وأقامت حضارة إنسانية وبشرية كاملة، هناك بعض الدول العظمى لا يتعدى عمرها البضع قرون من الزمن، ونحنُ نضيع شهرياً عشرات القرون من الإنتاج البشري !
مولدات الكهرباء !
مولد الكهرباء : مولد الكهرباء العادي الذي يكفي لإنارة لمبة وتلفاز فهو يحتاج يومياً إلى دولارين على أقل تقدير من الوقود لتشغيله عدة ساعات، وبالمقارنة بمتوسط دخل الفرد في قطاع غزة فهي لا تتعدى الدولارين يومياً، بمعادلة أبسط، إما أن تجلس تحت لمبة مضاءة وتموت من الجوع، أو أن تأكل وتموت في العتمة !
هذا إذا توفر الوقود أصلاً، وبعد أن تقف في طابور له أول ليس له أخر، كي تحصل على القليل منه، وفي الأيام الأخيرة، انقطع بشكل كامل وحتى إن فكرة في أن تجوع لأجل لترين وقود، فلن تحظى بهذه الفرصة بسبب الانقطاع الكامل للوقود من محطات التعبئة للأفراد، بالإضافة للأضرار الصحية على البيئة الجو العام والتنفس لما تصدره المولدات من عوادم سامة، وأيضاً ضجيج قاتل ويسبب توتر الأعصاب وفقدان التركيز، خصوصاً أنك لا تمر في شارع إلا وكان فيه عشرات المولدات !
حياة العدم !
لن أتكلم عن المخاطر الكبيرة التي تترتب عن انقطاع الكهرباء، وتأثيرها على قطاع التعليم بما يخص طلبة الثانوية العامة تحديداً، والمستشفيات واحتياجها للكهرباء بشكل مستمر، والمؤسسات وإلخ..،
أتكلمُ عن حياتنا العادية، أن تعيش شهرياً 12.5 يوماً من العدم، لا يعني أنك تكون ميتاً حقيقة، ولكن هذا معناه أنك تكون تائهاً في ظلامٍ كامل، لا تقرأ، ولا تكتب، ولا تخبز، ولا تطبخ، ولا تشاهد التلفاز، ويبدأ ليلك من ساعة الغروب، وأنك لا تحلق ذقنك صباحاً، ولا تستحم لأن السخانات مطفأة، ولا تنجز ما هو مطلوب منك من واجبات، وتلبس على ضوء شمعة، وتنام على رائحة الكاز، وتسير ببطء شديد خوفاً من التعرقل، وأن لا تتواصل مع أحد، وأن تخرج من البيت أغلب الوقت التي تكون منقطعة فيه الكهرباء، أو أن تنام عشرات الساعات يومياً لأجل أن تمضي هذا الوقت المعدوم، ومعناهُ أن أعصابنا التي لا تحتملُ كل هذا الإرهاق ستكون في توتر مزمن، وعصبية مزمنة، تؤثر على حياتك اليومية وعلاقاتك واستقرارك النفسي والعقلي، ويسأل في النهاية أحدهم، لماذا الشعب الغزي عصبي ولا يطيق نفسه، ويعاني من اكتئاب مزمن؟
لا تشغل بالكَ عزيزي بمثلِ هذه التفاصيل الصغيرة، بل أطلع خيالكَ وفكِر بما هو ابعدُ من ذلكَ، فأنا ما زلتُ لا استطيع أن أكتب لكَ العتمة، والظلام، والضجيج، والإزعاج، وأصوات المولدات، تُرى كيف يُمكِنُ أن نكتب عن هذه الأشياء أصلاً، وهل يستطيع الأعمى بأن يصف ما يراه بغيرِ العدم !
ولكن لتحفز مخيلتكَ على تصورِ الوضع أكثر، ما عليكَ عزيزي إلا أن تقطع عن منزلك الكهرباء لمدة أنت تختارها ولتكن بقدر استطاعتكَ على التحمل، ثم تعود إلي هنا وتقول لي ما شعرت به !
أزمة جديدة !
الغاز والمواصلات !
أخيراً في الأيام الأخيرة، انقطع غاز الطهي من قطاع غزة، وبدأت بعض الأسر بالطهي على “بابور الكاز” والحطب، بطبيعة الحال فإن بابور الكاز هذا هو موضوع في بعض الدول كتحفة أو أداة قديمة تعرض في المعارض والمتاحف، نعم نحنُ نقوم بطهي طعامنا على أدوات أصبحت الآن في متاحف العالم، يدللون بها على مدى تقدمهم وأن مثل هذه الأدوات أصبحت في صفحات التاريخ المنسية !
وللقارئ الذي لا يجدُ الوقت ليشغل مخيلته ويتخيل ما معنى “بابور الكاز”، فهو معناه أنك تأكلُ طعاماً ملوثاً بعوادم الوقود، وأن الطعام يأخذ ضعف الوقت للطهي، ومعناهُ أن البيت يظلُ معبقاً برائحة حريق ليل نهار بعد أن تقوم بإشعاله لتعد قليلاً من الشاي !
والأزمة الأحدث، هي أزمة المواصلات، فالمواطن الغزي الآن يحتاج إلى أن يقف من الوقت ما لا يقل عن النصف ساعة، وأحياناً الساعة ليجد مواصلة إلى مكان آخر، وطبعاً بأجرة مضاعفة عن السابق، وتقريباً بدأت الشوارع تخلو من سيارات الأجرة وأصبحت مضطراً للمشي !
نحنُ لا نعترض على المشي أبداً، نعم هي رياضة، ولكن تكون رياضة باختيارنا وليس حين نكون مجبرين على ذلك، ورياضة المشي في بعض الدول تكون دليلاً على الرقي والتحضر، هنا في قطاع غزة، دليل على أن جزء من كوكب الأرض (قطاع غزة)