"نظرت إليكم" لوحة فنية من جهاد مبتور الساق في غزة إلى العالم الصامت
من محمد الأسطل - لوحة وريشة وبعض الألوان، ثم أنامل تتحرك على بياض يتلون شيئاً فشيئاَ، ليجسد مأساة لن تغادر، وحاضراً يصعب تغييره، ومستقبلاً يخلو من نور في نهاية النفق، أما النتيجة النهائية، فلوحة فنية جميلة الشكل، حزينة المضمون.
هذه مواصفات لوحة "نظرت إليكم" للشاب الفلسطيني جهاد الغول، الذي يجسد من خلالها حكايته وحكايا الشباب الفلسطيني الذي فقد أحد أجزاء جسده خلال الاعتداءات الإسرائيلية، إذ بترت ساقه اليسرى بعد أن تعرض ومجموعة من الفتيان إلى صاروخ إسرائيلي أثناء لعبهم لكرة القدم في العام 2008.
حاول الأطباء آنذاك أن يبقوا له ساقه، فحولوه إلى أحد المستشفيات الإسرائيلية، لكن من دون جدوى، بترت ساقه وبترت معها أحلام فتى صغير لم يتجاوز عندها 16 عاماً، كان يملأ الدنيا حركة ولعباً، ليتحول إلى جسد ينبض بالدماء من دون حراك، وأنفاس تخرج وتعود، ولا تخرج معها الهموم أو يعود الأمل.
جهاد يتذكر تلك اللحظات بألم: "كنا نلعب في هدوء وسعادة، فجأة سقط علينا الصاروخ، استشهد 7 وأصبت أنا وصديق آخر، لكن حياتنا انقلبت تماماً بعدما عدت من المستشفى وقد فقدت جزءاً من جسدي".
وأضاف: "لم أتخيل أنني انا الذي أحب رياضة كرة القدم وانتظر أيام الإجازة لممارستها لن أتحرك مجدداً، أصبحت على مقعد متحرك والأدوات المساعدة لا تفارقني وكذلك عائلتي. هل ما يحدث لي واقع أم كابوس؟".
ظل جهاد لعامين يعيش في يأس لم ينقطع، حتى تحولت آلامه إلى آمال، فبدأ يمارس هواية جديدة، فنون الرسم بأنواعه، على اللوحات والجداريات، حتى أصبح خلال عام واحد من أولئك القلائل الذين يصممون اللوحات "الفرعونية" وينفذنوها في المنازل والمحال التجارية وغيرها.
وتحولت المأساة إلى إنجاز شيئاً فشيئاً، لكن المعاناة لم تتغير على صعيد صعوبة الحركة، والإهمال الذي يعانيه من قبل المؤسسات الفلسطينية، فأصر على التعبير عما يدور في خلده من ألم من خلال لوحة "نظرت إليكم".
أوضح جهاد أن اللوحة بمثابة تعبير رمزي عن آلامه، لأصحاب القرار في فلسطين وخارجها، "بأن هناك شبابا يتألمون من الإعاقة، وينظرون إليكم علكم تمدون لهم أياديكم لتقفوا إلى جانبهم في محنتهم"، لافتاً إلى أنه كان يبكي وهو يرسم اللوحة التي تجسد صورته الحقيقية، وهو مبتور الساق، بينما النار تخرج من صدره، وكأن جسده يحترق ليس من الشعور بالعجز الذي لازمه طويلاً فحسب، ولكن من عدم الاستجابة.
أما أم جهاد، فقد انقلبت حياتها هي الأخرى رأساً على عقب، فابنها الأكبر بحاجة مستمرة إلى من يساعده في تأديه احتياجاته اليومية من مأكل ومشرب وملبس وغيرها، مشيرة إلى أنها صارت تخصص جزءاً أساسياً من يومها لجهاد، حتى لا تشعره بالعجز أو اليأس، وتوفر له متطلباته، خصوصاً وأنه يدرس الديكور ويضطر إلى الذهاب يومياً للجامعة مع ما يعنيه ذلك من أعباء الحركة والدراسة وغيرها.
وقالت: "كلما أنظر إليه، أتذكر بحزن وألم كبير تلك الأيام التي كان فيها لا يهدأ وهو يلعب كرة القدم، ينتقل أمامي كالعصفور، أما الآن فيكفينا نظرة على لوحاته حتى نشعر بحجم الألم الذي يعتصر قلبه".
وتزداد الصعوبات التي يواجهها جهاد، نظراً لأن والده عاطل عن العمل كالكثيرين من الغزيين الذي تعطلوا جراء الحصار الإسرائيلي، ما يفاقم معاناة العائلة التي تسكن في مخيم البريج للاجئين وسط قطاع غزة.
وأكد الأب أنه يشعر بآهات نجله الأكبر في كل لحظة، حينما يخرج للجامعة وعندما يعود، وعندما يمسك بريشته ليرسم لوحاته الفنية، التي تغيب عنها المضامين السعيدة، وتتركز في المعاناة والألم والغضب فقط.
أما أمنيات جهاد فتبدو بسيطة، مؤسسة أو جهة مختصة، تعلمه الفنون بأنواعها، لينتقل من مرحلة الهواية إلى الاحتراف، ويتمكن من بدء حياته بصورة أسهل، أما الأمنية الثانية، فهي بناء منزل خاص به يتلاءم مع طبيعة إعاقته وتسهل فيه حركته.
جهاد الذي استقبلنا بكثير من الحزن وقليل من اليأس، غادرناه ولم تغادر الابتسامة محياه، وما زال الكثير من الأمل يتسلل إلى قلبه في حياة أفضل، عل ما أصابه لا يصيب غيره.