معاناة برش- الأسير المقدسي حسام زهدي شاهين
13-3-2012
سجن رامون الصحراوي
ما أن جلست عليه حتى بدأت أشعر بطاقة رفض غريبة، تنبذني وتدفعني عن هذا الحيز ذو الأرجل الأربعة، فلم يسبق لي وأن خضت تجربة لفظ المكان للإنسان بهذه القساوة، فدائماً الإنسان هو الذي لا ينسجم مع الأمكنة، غير أن العكس هو الصحيح هذه المرة، وهذا لايعني أنني تكيفت مع واقع السجن، أو استسلمت لشروطه، إلا أنني في النهاية بحاجة إلى مكان لألقي بجسدي المتلبد بالهموم فوقه، أو حتى تحته، ليس مهماً الكيفية التي أكون عليها، المهم أن أستفيد من نعمة النوم، التي يستريح فيها الدماغ ويريح الجسد من أعباءه، فكثيراً ما تمنيت، لو أنني أمتلك القدرة على إنتزاع دماغي من مكانه، وإلقائه في حاوية النفايات! فلو كنت قادراً على تجسيده ككائن حي، لأشبعته ركلاً ورفصاً، حتى يتراجع عن آفة التفكير المزعجة، التي راحت تثقل كاهل حياتي بمزيد من الشك والحيرة في إمكانية إستنهاض الواقع الذي نعيشه! وبعد أن كنت في مصيبة واحدة، صرت في مصيبتين، لعنة "البرش" الذي يلفظني خارجه كبحر هائج، ولعنة الدماغ الذي لا يكف عن التفكير، ويواصل إغتصابي بأفكاره المثالية، وأنا الآن أشعر نفسي كحبة قمح تطحن بين وجهي الرحا.
تجولت قليلاً في كف اللعنة التي تحتبس قبضتها على سبعة أجساد غير جسدي، واختلست النظر من حولي، بعين صياد ماكر ينتظر الإنقضاض على فريسته، فكل واحد من رفاقي لديه ما يشغله، إلا أنا، أعتقد أن لدي ما يشغل الكون بأسره، وفي ذهابي وإيابي بين الباب والنافذة، تعاركت مع دماغي الذي يكابرني، وقررت أن أجرده من قيم الوقار التي يرتديها، لعله بهذه الطريقة يجد نفسه، ويهتدي لظالته، ويخفف عني حملي. وبعد جرعة إنفعال، قذفت بعيني الغاضبة نحو "البرش" المتمرد في زاوية الزنزانة، فرأيته عارياً مني ومن أشيائي، فاستثار حنقي ونقمتي، وعقدت العزم على إحتلاله عنوة، وإغتصابه رغماً عنه، وبما أنني أكره الإحتلال وأرفضه، وأمقت اللواط وأنبذه، جملت الجريمة كعادة سياسينا في هذه الأيام، وأضفت تاء التأنيث "للبرش" فغدى بقدرة اللغة مؤنثاً، ولكي أكون أكثر دقة، بعبقرية تطويعي للغة صار "برشة"، ومع أن الإغتصاب جريمة مقرفة، إلا أنه في حالتي هذه شر لابد منه، والأدهى من ذلك، أنني كرجل، سبق وأن تعرضت لمحاولة إغتصاب من قبل فتاة إيطالية، وأختبرت هذه التجربة القاسية والمريره، فلولا لطف الله، وشهوتي المقيدة بالحب، وساقاي اللتين أطلقتهما للريح بعد تمزيق قميصي، وبعض الكدمات النفسية، وفيما بعد تدخل طاقم مكتبنا ومكتب الجيران والأخت العزيزة "لوسي نسيبة" بارك الله فيهم جميعاً، لتكررت معي حادثة النبي يوسف الذي أنقذه الله!
إقتربت من جهته بخطوات مترددة، ووثبت فوقه بشجاعة نمر صغير يثب فوق أمه، فحذفني ناحية الجدار، وقال لي بصوت خافت واثق: أنت جبان، حتى تهديدك الذي ساورتك فيه نفسك لم تنفذه، فلا أنت قادر على إحتلالي ولا تجرأت على إغتصابي، فمنذ أن اغتلتم روح التضامن الجماعي فيما بينكم، لم أعد قادراً على إحتمالكم، ما أن يستلقي الواحد منكم بين أحضاني، حتى تراوده أحلام اليقظة التي أستطيع أن أسمعها بكل سهولة، فبعد أن كان همكم الإنتصار على عدوكم، صار طموحكم هزيمة الواحد منكم للآخر، فغاب الإيثار عن ثقافتكم، واستوطنتكم الأنانية، واستفحلت في صفوفكم البلدية والجهوية، وبقدرة خيالكم المشوه، أصبحتم كلكم قيادات، ولا يعترف الواحد منكم بفضل الآخرين عليه، ولا يعلم ولا بمعرفة، وتريدني أن أستقبلك، بعد أن تخلصت من قرف الذين سبقوك.
فقلت له: لا اريد أن أبرر لك هذه الأزمة، غير أنها مؤقتة وستختفي اعراضها بزوال أسبابها، نحن نعاني من حالة خسوف في وعينا الوطني، وسرعان ما نستعيده كاستعادة الكون لضوء قمره.
فضحك بصوته "الصرصاري" وهمس في أذني: يبدو بأن خسوفكم طال أمره، واسبابه أصبحت جزءاً من حياتكم، وأعراضه باتت دائمة. في الماضي كنت أتعاطف معكم، أما اليوم، فإنني أشفق على نفسي منكم، الآف الرجال مروا من فوقي، ولكل واحد فيهم حكايته الإنسانية، ومع أنني كنت مشبعاً بالهموم والألم جراء ما اكتشفت من مآسٍ، تحاملت على نفسي وصبرت، لأن مصيبتكم كانت أكبر من مصيبتي، أما اليوم، فالعكس هو الصحيح، لا أحد في الخارج يتحمل مسؤوليتكم التنظيمية، والمحاسبة في سبات عميق، وأنتم الذين كنتم تحركون الشارع برشدكم، أصبحتم كالمراهقين تحتاجون إلى من يرعاكم، فلا تضغطني بكلامك أكثر من ذلك، حتى لا أؤذيك، خذ فرشتك وارحل بعيداً عني!
ولكنك صديق الأسرى على مدار سنوات طويلة، ولا يعقل أن تتخلى عن واجبك اتجاهنا لمجرد نزوة عابرة.
واجبي، وماذا عن واجباتكم تجاه أنفسكم، واتجاه مشاعري المتحفة بالهموم؟!.
أنت تعلم أننا كالبحر، نمر في مراحل مد وجزر، والجزر الذي نحن فيه اليوم أشبه باستراحة مقاتل، من حقك أن تعاتبنا، ولكن أن تقاطعنا بهذه الطريقة المؤلمة، فهذا ما نرجوا منك أن تعيد النظر فيه.
تحدث باسم نفسك فقط، وإياك أن تخاطبني بلغة "النحن" مجدداً، لأنك تعلم أنه من حيث الشكل يوجد من يمثلكم، أما من حيث الجوهر، فأنتم تفتقرون لهذا الإجماع، فجرثومة الفردانية تنهش في جسدكم الجماعي، الذي اشك أنه تبقى منه جزء معافى، وبهذه المناسبة قل لي: هل حقاً أن وزيركم لا يعلم لماذا ميسره أبو حمديه ويوسف سكافي وعاطف وريدات، وخضر عدنان وهناء الشلبي وكفاح حطاب، وغيرهم، خاضوا ويخوضون معاركهم لوحدهم؟.
لا، إنه يعلم، ولكنه بتساؤله هذا، يحاول أن يدعونا إلى توحيد صفوفنا ورصها، صحيح أن الدعوة لوحدها غير كافية إن لم تكن مصحوبة بإجراءات ملموسة، غير أن هذه هي إمكانياته الراهنة، فالوضع في الخارج ليس أحسن حالاً من الوضع في الداخل.
هه..هه، ما أسرعكم في تبرير اخطائكم، وتغطية عجزكم، تؤثرون بعض المكاسب والإمتيازات الآنية على حساب مواقفكم وعلاقاتكم التاريخية والإستراتيجية، وتتركون عدوكم يتفرد بكم كحال الثور الأبيض وبسهولة تعلقون كل ذلك على شجاعة الحفاظ على الواقع، وتفويت الفرصة عيله، وأنا لا أدري أي واقع هذا الذي تتحدثون عنه، وأية فرص هذه التي فوتموها ولم يستغلها عدوكم بعد؟!.
أرجوك، لا تعمم الرواية علينا بهذه الطريقة الظالمة، فنحن (DNA) المجتمع الفلسطيني، فينا ما فيه من محاسن، وفينا ما فيه من أمراض اجتماعية وسياسية وثقافية وغيرها، وسنعالج أنفسنا بأسرع مما تعتقد.
إذاً، اغرب عن ظهري الآن، ومتى تنجحون في إستئصال أورامكم الخبيثة، ستجدني خير مرحب بكم ومدافع عنكم، وأنا في هذه اللحظات لن أكون "كاثوليكياً أكثر من البابا".
حملت فراشي وخيبتي وهمي ونمت على الأرض في تلك الليلة، لعلني أستطيع أن أجد مدخلاً مناسباً أقنع خلاله "البرش" على إستيعابي مرة أخرى، فهل من مغيث؟!.
سجن رامون الصحراوي
ما أن جلست عليه حتى بدأت أشعر بطاقة رفض غريبة، تنبذني وتدفعني عن هذا الحيز ذو الأرجل الأربعة، فلم يسبق لي وأن خضت تجربة لفظ المكان للإنسان بهذه القساوة، فدائماً الإنسان هو الذي لا ينسجم مع الأمكنة، غير أن العكس هو الصحيح هذه المرة، وهذا لايعني أنني تكيفت مع واقع السجن، أو استسلمت لشروطه، إلا أنني في النهاية بحاجة إلى مكان لألقي بجسدي المتلبد بالهموم فوقه، أو حتى تحته، ليس مهماً الكيفية التي أكون عليها، المهم أن أستفيد من نعمة النوم، التي يستريح فيها الدماغ ويريح الجسد من أعباءه، فكثيراً ما تمنيت، لو أنني أمتلك القدرة على إنتزاع دماغي من مكانه، وإلقائه في حاوية النفايات! فلو كنت قادراً على تجسيده ككائن حي، لأشبعته ركلاً ورفصاً، حتى يتراجع عن آفة التفكير المزعجة، التي راحت تثقل كاهل حياتي بمزيد من الشك والحيرة في إمكانية إستنهاض الواقع الذي نعيشه! وبعد أن كنت في مصيبة واحدة، صرت في مصيبتين، لعنة "البرش" الذي يلفظني خارجه كبحر هائج، ولعنة الدماغ الذي لا يكف عن التفكير، ويواصل إغتصابي بأفكاره المثالية، وأنا الآن أشعر نفسي كحبة قمح تطحن بين وجهي الرحا.
تجولت قليلاً في كف اللعنة التي تحتبس قبضتها على سبعة أجساد غير جسدي، واختلست النظر من حولي، بعين صياد ماكر ينتظر الإنقضاض على فريسته، فكل واحد من رفاقي لديه ما يشغله، إلا أنا، أعتقد أن لدي ما يشغل الكون بأسره، وفي ذهابي وإيابي بين الباب والنافذة، تعاركت مع دماغي الذي يكابرني، وقررت أن أجرده من قيم الوقار التي يرتديها، لعله بهذه الطريقة يجد نفسه، ويهتدي لظالته، ويخفف عني حملي. وبعد جرعة إنفعال، قذفت بعيني الغاضبة نحو "البرش" المتمرد في زاوية الزنزانة، فرأيته عارياً مني ومن أشيائي، فاستثار حنقي ونقمتي، وعقدت العزم على إحتلاله عنوة، وإغتصابه رغماً عنه، وبما أنني أكره الإحتلال وأرفضه، وأمقت اللواط وأنبذه، جملت الجريمة كعادة سياسينا في هذه الأيام، وأضفت تاء التأنيث "للبرش" فغدى بقدرة اللغة مؤنثاً، ولكي أكون أكثر دقة، بعبقرية تطويعي للغة صار "برشة"، ومع أن الإغتصاب جريمة مقرفة، إلا أنه في حالتي هذه شر لابد منه، والأدهى من ذلك، أنني كرجل، سبق وأن تعرضت لمحاولة إغتصاب من قبل فتاة إيطالية، وأختبرت هذه التجربة القاسية والمريره، فلولا لطف الله، وشهوتي المقيدة بالحب، وساقاي اللتين أطلقتهما للريح بعد تمزيق قميصي، وبعض الكدمات النفسية، وفيما بعد تدخل طاقم مكتبنا ومكتب الجيران والأخت العزيزة "لوسي نسيبة" بارك الله فيهم جميعاً، لتكررت معي حادثة النبي يوسف الذي أنقذه الله!
إقتربت من جهته بخطوات مترددة، ووثبت فوقه بشجاعة نمر صغير يثب فوق أمه، فحذفني ناحية الجدار، وقال لي بصوت خافت واثق: أنت جبان، حتى تهديدك الذي ساورتك فيه نفسك لم تنفذه، فلا أنت قادر على إحتلالي ولا تجرأت على إغتصابي، فمنذ أن اغتلتم روح التضامن الجماعي فيما بينكم، لم أعد قادراً على إحتمالكم، ما أن يستلقي الواحد منكم بين أحضاني، حتى تراوده أحلام اليقظة التي أستطيع أن أسمعها بكل سهولة، فبعد أن كان همكم الإنتصار على عدوكم، صار طموحكم هزيمة الواحد منكم للآخر، فغاب الإيثار عن ثقافتكم، واستوطنتكم الأنانية، واستفحلت في صفوفكم البلدية والجهوية، وبقدرة خيالكم المشوه، أصبحتم كلكم قيادات، ولا يعترف الواحد منكم بفضل الآخرين عليه، ولا يعلم ولا بمعرفة، وتريدني أن أستقبلك، بعد أن تخلصت من قرف الذين سبقوك.
فقلت له: لا اريد أن أبرر لك هذه الأزمة، غير أنها مؤقتة وستختفي اعراضها بزوال أسبابها، نحن نعاني من حالة خسوف في وعينا الوطني، وسرعان ما نستعيده كاستعادة الكون لضوء قمره.
فضحك بصوته "الصرصاري" وهمس في أذني: يبدو بأن خسوفكم طال أمره، واسبابه أصبحت جزءاً من حياتكم، وأعراضه باتت دائمة. في الماضي كنت أتعاطف معكم، أما اليوم، فإنني أشفق على نفسي منكم، الآف الرجال مروا من فوقي، ولكل واحد فيهم حكايته الإنسانية، ومع أنني كنت مشبعاً بالهموم والألم جراء ما اكتشفت من مآسٍ، تحاملت على نفسي وصبرت، لأن مصيبتكم كانت أكبر من مصيبتي، أما اليوم، فالعكس هو الصحيح، لا أحد في الخارج يتحمل مسؤوليتكم التنظيمية، والمحاسبة في سبات عميق، وأنتم الذين كنتم تحركون الشارع برشدكم، أصبحتم كالمراهقين تحتاجون إلى من يرعاكم، فلا تضغطني بكلامك أكثر من ذلك، حتى لا أؤذيك، خذ فرشتك وارحل بعيداً عني!
ولكنك صديق الأسرى على مدار سنوات طويلة، ولا يعقل أن تتخلى عن واجبك اتجاهنا لمجرد نزوة عابرة.
واجبي، وماذا عن واجباتكم تجاه أنفسكم، واتجاه مشاعري المتحفة بالهموم؟!.
أنت تعلم أننا كالبحر، نمر في مراحل مد وجزر، والجزر الذي نحن فيه اليوم أشبه باستراحة مقاتل، من حقك أن تعاتبنا، ولكن أن تقاطعنا بهذه الطريقة المؤلمة، فهذا ما نرجوا منك أن تعيد النظر فيه.
تحدث باسم نفسك فقط، وإياك أن تخاطبني بلغة "النحن" مجدداً، لأنك تعلم أنه من حيث الشكل يوجد من يمثلكم، أما من حيث الجوهر، فأنتم تفتقرون لهذا الإجماع، فجرثومة الفردانية تنهش في جسدكم الجماعي، الذي اشك أنه تبقى منه جزء معافى، وبهذه المناسبة قل لي: هل حقاً أن وزيركم لا يعلم لماذا ميسره أبو حمديه ويوسف سكافي وعاطف وريدات، وخضر عدنان وهناء الشلبي وكفاح حطاب، وغيرهم، خاضوا ويخوضون معاركهم لوحدهم؟.
لا، إنه يعلم، ولكنه بتساؤله هذا، يحاول أن يدعونا إلى توحيد صفوفنا ورصها، صحيح أن الدعوة لوحدها غير كافية إن لم تكن مصحوبة بإجراءات ملموسة، غير أن هذه هي إمكانياته الراهنة، فالوضع في الخارج ليس أحسن حالاً من الوضع في الداخل.
هه..هه، ما أسرعكم في تبرير اخطائكم، وتغطية عجزكم، تؤثرون بعض المكاسب والإمتيازات الآنية على حساب مواقفكم وعلاقاتكم التاريخية والإستراتيجية، وتتركون عدوكم يتفرد بكم كحال الثور الأبيض وبسهولة تعلقون كل ذلك على شجاعة الحفاظ على الواقع، وتفويت الفرصة عيله، وأنا لا أدري أي واقع هذا الذي تتحدثون عنه، وأية فرص هذه التي فوتموها ولم يستغلها عدوكم بعد؟!.
أرجوك، لا تعمم الرواية علينا بهذه الطريقة الظالمة، فنحن (DNA) المجتمع الفلسطيني، فينا ما فيه من محاسن، وفينا ما فيه من أمراض اجتماعية وسياسية وثقافية وغيرها، وسنعالج أنفسنا بأسرع مما تعتقد.
إذاً، اغرب عن ظهري الآن، ومتى تنجحون في إستئصال أورامكم الخبيثة، ستجدني خير مرحب بكم ومدافع عنكم، وأنا في هذه اللحظات لن أكون "كاثوليكياً أكثر من البابا".
حملت فراشي وخيبتي وهمي ونمت على الأرض في تلك الليلة، لعلني أستطيع أن أجد مدخلاً مناسباً أقنع خلاله "البرش" على إستيعابي مرة أخرى، فهل من مغيث؟!.