وفا مرّت من هنا حتى وصلت لفلسطين
شهادة بقلم: طاهر الشيخ (محمد شولاق)
في مطلع سبعينيات القرن الماضي، تحولت العاصمة اللبنانية بيروت إلى قبلة الثوار العرب بعدما أصبحت مقرا رسميا للثورة الفلسطينية، طبقا لاتفاقية القاهرة التي رعاها الزعيم الخالد جمال عبد الناصر، حيث انتشر رجال المقاومة الفلسطينية على الحدود اللبنانية في مواجهة جيش الاحتلال الإسرائيلي للقيام بعمليات فدائية تستهدف جنود الاحتلال.
وسط هذا الزخم الثوري وبعد حرب أكتوبر 1973 تحول العديد من المتطوعين العرب للانضمام لصفوف الثورة الفلسطينية بمختلف فصائلها، وكذلك العديد من المثقفين والأدباء والكتاب العرب الذين ضاقت بهم أوطانهم من مساحات الحرية المسموح فيها بالتعبير عن آرائهم ومواقفهم، وكان قبلة هؤلاء جميعا إعلام الثورة الفلسطينية في بيروت والذي شكلت دعامته الأساسية وكالة الأنباء الفلسطينية )وفا) التي كانت قد تأسست في شهر يونيو/ حزيران من عام 1972 بقرار من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وليكون أول مدير عام لها الصحفي زياد عبد الفتاح مع كوكبة من الصحفيين الفلسطينيين والعرب، وليكون أول سكرتير تحرير لها سليمان إبراهيم أبو جاموس رحمه الله، ومستشار ورئيس تحرير لها العربي المصري فهمي حسين رحمه الله، القادم إليها من مجلة روز اليوسف المصرية العريقة بعد أن ضاق ذرعا بالقيود المفروضة على قلمه.
صارت "وفا" يوما بعد يوم تستقطب العديد من الأقلام العربية التي هاجرت أو هجّرت من أوطانها في ذلك الحين، حيث أصبحت "وفا"تضم بعد ذلك اللبناني والأردني والعراقي والسوري، إلى جانب عدد من المصريين ومنهم العبد لله كاتب هذه السطور، الذي بقي صامدا في "وفا" يتولى الآن منصب مدير مكتب الوكالة في تونس.
محطات عديدة مرت بها "وفا"، التي أصبحت منافسا للعديد من الوكالات العربية والأجنبية في سرعة بث الخبر، وذلك نظرا لمهارة وكفاءة وبسالة مراسليها ومحرريها في لبنان، الذين كانوا يسارعون لتغطية الأحداث وما أكثرها، وخاصة الاعتداءات الإسرائيلية في جنوب لبنان والعاصمة بيروت التي صمدت في وجه الآلة الحربية الإسرائيلية وخاصة الطيران الحربي الذي كان يعتبر بيروت وأجواءها ساحة مفتوحة لشن غاراته الجوية.
تطورت "وفا"بدورها لتنشئ العديد من الأقسام المختصة على غرار قسم التصوير وقسم الأرشيف والإدارة والمالية وغيرها، إلى جانب إصدار نشرة باللغة الإنجليزية توزع في ذلك الوقت على جهاز "التليكس" والذي كان يتولى رئاسة تحريرها في ذلك الوقت الصحفي رشيد الخالدي، ومواكبة للأمور فقد كانت "وفا"تتابع المستجدات في عالم الإعلام، حيث كانت ترسل العديد من العاملين لديها في دورات خارجية لزيادة خبراتهم، إلى جانب تنظيم دورات صحفية على أيدي عدد من كبار الصحفيين، وشاركت في إحداها على يد الصحفي المصري الكبير محمود أمين العالم، رحمه الله، والذي تعلمنا منه الكثير من الخبرات الإعلامية.
مثلت "وفا"أسرة تحرير واحدة وعائلة كبيرة يرعاها ويحرص على حل مشاكلها القائد الشهيد خالد الذكر ياسر عرفات (أبو عمار)، الذي كان يتابع ما تصدره وتنشره كافة وسائل الإعلام العربية والعالمية، ومن بينها الوكالة الرسمية للثورة الفلسطينية )وفا(يوميا، حتى وصل حرصه إلى مشاركة العاملين فيها أحزانهم في حالات الشهادة والوفاة، وكذلك أفراحهم في حالة زواج أحدهم.
تصل "وفا"إلى عنفوان معاركها وصمودها البطولي أثناء الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، حيث نقل العمل من مقر "فا" في ذلك الوقت إلى أحد الملاجئ، وبالتحديد مقر المجلس الثوري لحركة فتح، والذي كان يطلق عليه ملجأ المجلس الثوري لأنه يقع تحت سطح الأرض نظرا لشدة القصف الذي كانت تتعرض له ما أطلق عليه في ذلك الوقت "جمهورية الفاكهاني"، ليواجه صحفيو ومحررو "وفا" نمط عمل جديد فرضته عليهم أجواء المعركة، حيث تناوب كافة العاملين في "وفا" على العمل بمناوبات نهارا وليلا، وبمجموعات عمل في أكثر من منطقة، تكون مهمتها نشر الوقائع اليومية للعدوان الإسرائيلي على لبنان والذي استمر 88 يوما بأسلوب مبتكر، كان يغلب عليه إنكار الذات لتزويد وكالات الأنباء ومحطات التلفزيون المختلفة التي توافدت على بيروت لتغطية العدوان الإسرائيلي، بالإحصائيات الدقيقة عن عدد الشهداء الذين يسقطون يوميا، وعن المباني والعمارات التي تدمر بفعل القصف الوحشي، إلى جانب ذلك فقد كان من يحررون الأخبار بأقلامهم يحملون على أكتافهم")الكلاشنكوف" تنفيذا لتعليمات أبو عمار استعدادا للمعركة الأخيرة التي كان يجري الحديث عنها حول اقتحام القوات الإسرائيلية المربع الأخير في بيروت الغربية (الفاكهاني).
لا أستطيع أن أنسى وجه عم فهمي حسين (كما كنا نحب أن نطلق عليه)يوم أن بدأ القصف الجوي الإسرائيلي في 5 يونيو/حزيران 1982 منتصف النهار تقريبا على مربع الفاكهاني، فاندفعنا جميعا لننزل من الطابق الثالث في مقر بناية "وفا" إلى المصعد، فإذا به يقول "لا تستعملوا المصعد، من الأفضل أن يكون النزول على الدرج وببطء، والله هو الحامي".
"وفا "في تونس
عند التوصل لاتفاق فليب حبيب القاضي بخروج قوات منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان بعد الصمود البطولي لثمانية وثمانين يوما، كان كوادر "وفا"يعد العدة للخروج أيضا مع قوات المنظمة، حيث خرج غالبية الكادر الرئيسي الى تونس التي احتضنت مقر المنظمة (على الباخرة المتوجهة لتونس)، وكان نصيب كاتب هذه السطور كما شاءت الأقدار أن أخرج من بيروت على الباخرة اليونانية التي أقلت الرئيس أبو عمار إلى اليونان، وفي اليوم الأول للرحلة عندما سأل أبو عمار كعادته: أين وفا؟ قلت له القسم الأكبر من كادر وفا قد وصل تونس وأنا معك الآن في عرض البحر، وفي عرض النبي، وكانت الدعابة التي انفجر فيها الضحك ممن يجلسون مع أبو عمار على ظهر الباخرة اليونانية "سلوفيرين" من صخر أبو نزار، إلى أحمد عبد الرحمن، وعماد شكورة، ومحمود اللبدي، وآخرين لم تسعفني الذاكرة بهم. وصلنا اليونان ومنها لتونس بعد أربعة أيام.
في تونس وفي فندق سلوى ومنذ اليوم الأول أشرف على إصدار "وفا"محمد عواد (أبو الوفا)هذا المناضل الذي كان يتندر معه السائق الذي يقوم بتوزيع النشرة، ويسأله هل أنت صاحب هذه الوكالة؟ وذلك لحين وصول المرحوم سليمان من دمشق، التي خرج على باخرتها، وكذلك زياد عبد الفتاح الذي خرج في رحلة عودة طويلة مرورا بدمشق والإسكندرية التي لم يدخلها واليونان، ثم إلى تونس ليصبح مقر "وفا" الرسمي بعد عدة أيام في المنزه السادس في شارع أبو لبابة الأنصاري.
وفي تونس تجمع الأحباب والمناضلون والثوار لتنطلق مرحلة جديدة في أسلوب وعمل وكالة وفا بقيادة زياد عبد الفتاح وإدارة حكيمة من سليمان إبراهيم، وطبعا الصحفيين الفلسطينيين ومنهم محمد الشرافي وأحمد الشيخ، إلى جانب استمرار "وفا" في احتضان العرب، وعلى رأسهم فهمي حسين وكاتب هذه الشهادة وحسين عباس (ابن بني سويف)، وهاني الروسان الأردني، وحمد العراقي، وبشير البكر السوري وغيرهم، إلى جانب انضمام عرب آخرين بالطبع من تونس للعمل في النشرة الفرنسية.
كانت مرحلة تونس ذات طابع مميز فقد مررنا بالعديد من المحطات الواجب ذكرها، منها الغارة الإسرائيلية على حمام الشط حيث مقر الرئيس الراحل ياسر عرفات، إلى جانب مقرات أخرى كالإدارة العسكرية وكيفية تعامل "وفا" مع هذا الحدث الذي هز العالم، حيث لاحقت الطائرات الإسرائيلية الزعيم الراحل إلى تونس، وكيف استطاع أحد صحفيي "وفا" إنقاذ العديد من مراسلي وكالات الأنباء العالمية من الحرج الذي وقعوا فيه عندما أبلغهم أن الرئيس عرفات يتفقد موقع القصف الذي دمرته الطائرات الإسرائيلية، بعد أن كان وقع في ذهن الجميع أن الرئيس عرفات قد استشهد في تلك الغارة.
وفي تونس وقفت مع رئيس تحرير الوكالة الحالي صديق العمر علي حسين في شارع يوغرطة الشهير بتونس، أمام مقر الرئيس الشهيد أبو عمار في انتظار موكب وزير الخارجية الأميركي وارن كريستوفر الذي جاء لتونس خصيصا للاجتماع بعرفات وإقناعه بالموافقة على ذهاب وفد من الأرض الفلسطينية إلى مؤتمر مدريد للسلام، وعند وصول موكب الوزير نظرنا أنا وعلي إلى بعضنا وقلت له هذه لحظات تاريخية لا يجب أن تمحى من ذاكرتنا حينما أعتقد الجميع أن الحصار على منظمة التحرير وإبعادها بعيدا عن حدود فلسطين سوف يقضي عليها، ولكنها صمدت وها هي تعود الى المشهد السياسي الدولي من أوسع أبوابه، وبعدها ذهبنا سويا مع وفد من الإعلام الفلسطيني لنغطي هذا المؤتمر الشهير (مؤتمر مدريد للسلام) الذي جاء تحت ضغط انتفاضة 1987 المجيدة لشعبنا الفلسطيني والتي منذ انطلاقتها كانت "وفا" تنقل أخبارها وفعالياتها في كل قرية فلسطينية في نشرة خاصة أطلق عليها نشرة الانتفاضة، وتوزع على كافة وكالات الأنباء العربية والعالمية وسط محاولات إسرائيلية لمنع نشر أخبارها.
وفا ذاهبة إلى الوطن
بعد توقيع اتفاق أوسلو في البيت الأبيض من قبل الرئيس أبو مازن وشمعون بيرس، وبرعاية الرئيس الأميركي بيل كلينتون، وبحضور القائد أبو عمار وإسحاق رابين، ووزيري خارجية الولايات المتحدة وروسيا وارن كريستوفر وأندريه كوزيريف، وتبادل الخطابات الرسمية، تلقت "وفا" أكبر وسام على صدرها باعتراف من وكالة الأنباء البريطانية رويترز، بثته في إحدى برقياتها بأن وكالة الأنباء الفلسطينية )وفا( كانت الأسرع والسباقة في بث خطابات الرؤساء كاملة، ولتبدأ "وفا" مرحلة جديدة في مسيرتها بالاستعداد للانتقال إلى أرض الوطن في قطاع غزة بعد غربتها في الخارج لمدة اثنين وعشرين عاما، لينتقل فريق منها الأول ليسبق أبو عمار إلى غزة ممثلا بالأخ محمد الشرافي، والثاني يرافق الرئيس ممثلا في الأخوين سليمان إبراهيم وعلي حسين.
يحضرني هنا حوار من الذاكرة مع الأخ علي حسين متى سينطلق البث من غزة حتى نوقف البث من تونس، ليقول لي الأخ علي بمجرد وصول الرئيس أبو عمار إلى غزة، يصبح المقر الرسمي للوكالة حيث يوجد الرئيس ولتبني "وفا" مقرها الجديد بسواعد أبنائها وتبدأ في مرحلة البناء الداخلي ليصبح لــ"وفا" مكاتب ومراسلون في كافة المدن التي تنسحب منها إسرائيل، وأتيح لي الذهاب إلى غزة في العام 1996 وبرقم وطني أسوة بإخواني الفلسطينيين ليحصل كمواطن عربي مصري على الجنسية الفلسطينية الممثلة في الهوية وجواز السفر.
في مطلع سبعينيات القرن الماضي، تحولت العاصمة اللبنانية بيروت إلى قبلة الثوار العرب بعدما أصبحت مقرا رسميا للثورة الفلسطينية، طبقا لاتفاقية القاهرة التي رعاها الزعيم الخالد جمال عبد الناصر، حيث انتشر رجال المقاومة الفلسطينية على الحدود اللبنانية في مواجهة جيش الاحتلال الإسرائيلي للقيام بعمليات فدائية تستهدف جنود الاحتلال.
وسط هذا الزخم الثوري وبعد حرب أكتوبر 1973 تحول العديد من المتطوعين العرب للانضمام لصفوف الثورة الفلسطينية بمختلف فصائلها، وكذلك العديد من المثقفين والأدباء والكتاب العرب الذين ضاقت بهم أوطانهم من مساحات الحرية المسموح فيها بالتعبير عن آرائهم ومواقفهم، وكان قبلة هؤلاء جميعا إعلام الثورة الفلسطينية في بيروت والذي شكلت دعامته الأساسية وكالة الأنباء الفلسطينية )وفا) التي كانت قد تأسست في شهر يونيو/ حزيران من عام 1972 بقرار من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وليكون أول مدير عام لها الصحفي زياد عبد الفتاح مع كوكبة من الصحفيين الفلسطينيين والعرب، وليكون أول سكرتير تحرير لها سليمان إبراهيم أبو جاموس رحمه الله، ومستشار ورئيس تحرير لها العربي المصري فهمي حسين رحمه الله، القادم إليها من مجلة روز اليوسف المصرية العريقة بعد أن ضاق ذرعا بالقيود المفروضة على قلمه.
صارت "وفا" يوما بعد يوم تستقطب العديد من الأقلام العربية التي هاجرت أو هجّرت من أوطانها في ذلك الحين، حيث أصبحت "وفا"تضم بعد ذلك اللبناني والأردني والعراقي والسوري، إلى جانب عدد من المصريين ومنهم العبد لله كاتب هذه السطور، الذي بقي صامدا في "وفا" يتولى الآن منصب مدير مكتب الوكالة في تونس.
محطات عديدة مرت بها "وفا"، التي أصبحت منافسا للعديد من الوكالات العربية والأجنبية في سرعة بث الخبر، وذلك نظرا لمهارة وكفاءة وبسالة مراسليها ومحرريها في لبنان، الذين كانوا يسارعون لتغطية الأحداث وما أكثرها، وخاصة الاعتداءات الإسرائيلية في جنوب لبنان والعاصمة بيروت التي صمدت في وجه الآلة الحربية الإسرائيلية وخاصة الطيران الحربي الذي كان يعتبر بيروت وأجواءها ساحة مفتوحة لشن غاراته الجوية.
تطورت "وفا"بدورها لتنشئ العديد من الأقسام المختصة على غرار قسم التصوير وقسم الأرشيف والإدارة والمالية وغيرها، إلى جانب إصدار نشرة باللغة الإنجليزية توزع في ذلك الوقت على جهاز "التليكس" والذي كان يتولى رئاسة تحريرها في ذلك الوقت الصحفي رشيد الخالدي، ومواكبة للأمور فقد كانت "وفا"تتابع المستجدات في عالم الإعلام، حيث كانت ترسل العديد من العاملين لديها في دورات خارجية لزيادة خبراتهم، إلى جانب تنظيم دورات صحفية على أيدي عدد من كبار الصحفيين، وشاركت في إحداها على يد الصحفي المصري الكبير محمود أمين العالم، رحمه الله، والذي تعلمنا منه الكثير من الخبرات الإعلامية.
مثلت "وفا"أسرة تحرير واحدة وعائلة كبيرة يرعاها ويحرص على حل مشاكلها القائد الشهيد خالد الذكر ياسر عرفات (أبو عمار)، الذي كان يتابع ما تصدره وتنشره كافة وسائل الإعلام العربية والعالمية، ومن بينها الوكالة الرسمية للثورة الفلسطينية )وفا(يوميا، حتى وصل حرصه إلى مشاركة العاملين فيها أحزانهم في حالات الشهادة والوفاة، وكذلك أفراحهم في حالة زواج أحدهم.
تصل "وفا"إلى عنفوان معاركها وصمودها البطولي أثناء الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، حيث نقل العمل من مقر "فا" في ذلك الوقت إلى أحد الملاجئ، وبالتحديد مقر المجلس الثوري لحركة فتح، والذي كان يطلق عليه ملجأ المجلس الثوري لأنه يقع تحت سطح الأرض نظرا لشدة القصف الذي كانت تتعرض له ما أطلق عليه في ذلك الوقت "جمهورية الفاكهاني"، ليواجه صحفيو ومحررو "وفا" نمط عمل جديد فرضته عليهم أجواء المعركة، حيث تناوب كافة العاملين في "وفا" على العمل بمناوبات نهارا وليلا، وبمجموعات عمل في أكثر من منطقة، تكون مهمتها نشر الوقائع اليومية للعدوان الإسرائيلي على لبنان والذي استمر 88 يوما بأسلوب مبتكر، كان يغلب عليه إنكار الذات لتزويد وكالات الأنباء ومحطات التلفزيون المختلفة التي توافدت على بيروت لتغطية العدوان الإسرائيلي، بالإحصائيات الدقيقة عن عدد الشهداء الذين يسقطون يوميا، وعن المباني والعمارات التي تدمر بفعل القصف الوحشي، إلى جانب ذلك فقد كان من يحررون الأخبار بأقلامهم يحملون على أكتافهم")الكلاشنكوف" تنفيذا لتعليمات أبو عمار استعدادا للمعركة الأخيرة التي كان يجري الحديث عنها حول اقتحام القوات الإسرائيلية المربع الأخير في بيروت الغربية (الفاكهاني).
لا أستطيع أن أنسى وجه عم فهمي حسين (كما كنا نحب أن نطلق عليه)يوم أن بدأ القصف الجوي الإسرائيلي في 5 يونيو/حزيران 1982 منتصف النهار تقريبا على مربع الفاكهاني، فاندفعنا جميعا لننزل من الطابق الثالث في مقر بناية "وفا" إلى المصعد، فإذا به يقول "لا تستعملوا المصعد، من الأفضل أن يكون النزول على الدرج وببطء، والله هو الحامي".
"وفا "في تونس
عند التوصل لاتفاق فليب حبيب القاضي بخروج قوات منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان بعد الصمود البطولي لثمانية وثمانين يوما، كان كوادر "وفا"يعد العدة للخروج أيضا مع قوات المنظمة، حيث خرج غالبية الكادر الرئيسي الى تونس التي احتضنت مقر المنظمة (على الباخرة المتوجهة لتونس)، وكان نصيب كاتب هذه السطور كما شاءت الأقدار أن أخرج من بيروت على الباخرة اليونانية التي أقلت الرئيس أبو عمار إلى اليونان، وفي اليوم الأول للرحلة عندما سأل أبو عمار كعادته: أين وفا؟ قلت له القسم الأكبر من كادر وفا قد وصل تونس وأنا معك الآن في عرض البحر، وفي عرض النبي، وكانت الدعابة التي انفجر فيها الضحك ممن يجلسون مع أبو عمار على ظهر الباخرة اليونانية "سلوفيرين" من صخر أبو نزار، إلى أحمد عبد الرحمن، وعماد شكورة، ومحمود اللبدي، وآخرين لم تسعفني الذاكرة بهم. وصلنا اليونان ومنها لتونس بعد أربعة أيام.
في تونس وفي فندق سلوى ومنذ اليوم الأول أشرف على إصدار "وفا"محمد عواد (أبو الوفا)هذا المناضل الذي كان يتندر معه السائق الذي يقوم بتوزيع النشرة، ويسأله هل أنت صاحب هذه الوكالة؟ وذلك لحين وصول المرحوم سليمان من دمشق، التي خرج على باخرتها، وكذلك زياد عبد الفتاح الذي خرج في رحلة عودة طويلة مرورا بدمشق والإسكندرية التي لم يدخلها واليونان، ثم إلى تونس ليصبح مقر "وفا" الرسمي بعد عدة أيام في المنزه السادس في شارع أبو لبابة الأنصاري.
وفي تونس تجمع الأحباب والمناضلون والثوار لتنطلق مرحلة جديدة في أسلوب وعمل وكالة وفا بقيادة زياد عبد الفتاح وإدارة حكيمة من سليمان إبراهيم، وطبعا الصحفيين الفلسطينيين ومنهم محمد الشرافي وأحمد الشيخ، إلى جانب استمرار "وفا" في احتضان العرب، وعلى رأسهم فهمي حسين وكاتب هذه الشهادة وحسين عباس (ابن بني سويف)، وهاني الروسان الأردني، وحمد العراقي، وبشير البكر السوري وغيرهم، إلى جانب انضمام عرب آخرين بالطبع من تونس للعمل في النشرة الفرنسية.
كانت مرحلة تونس ذات طابع مميز فقد مررنا بالعديد من المحطات الواجب ذكرها، منها الغارة الإسرائيلية على حمام الشط حيث مقر الرئيس الراحل ياسر عرفات، إلى جانب مقرات أخرى كالإدارة العسكرية وكيفية تعامل "وفا" مع هذا الحدث الذي هز العالم، حيث لاحقت الطائرات الإسرائيلية الزعيم الراحل إلى تونس، وكيف استطاع أحد صحفيي "وفا" إنقاذ العديد من مراسلي وكالات الأنباء العالمية من الحرج الذي وقعوا فيه عندما أبلغهم أن الرئيس عرفات يتفقد موقع القصف الذي دمرته الطائرات الإسرائيلية، بعد أن كان وقع في ذهن الجميع أن الرئيس عرفات قد استشهد في تلك الغارة.
وفي تونس وقفت مع رئيس تحرير الوكالة الحالي صديق العمر علي حسين في شارع يوغرطة الشهير بتونس، أمام مقر الرئيس الشهيد أبو عمار في انتظار موكب وزير الخارجية الأميركي وارن كريستوفر الذي جاء لتونس خصيصا للاجتماع بعرفات وإقناعه بالموافقة على ذهاب وفد من الأرض الفلسطينية إلى مؤتمر مدريد للسلام، وعند وصول موكب الوزير نظرنا أنا وعلي إلى بعضنا وقلت له هذه لحظات تاريخية لا يجب أن تمحى من ذاكرتنا حينما أعتقد الجميع أن الحصار على منظمة التحرير وإبعادها بعيدا عن حدود فلسطين سوف يقضي عليها، ولكنها صمدت وها هي تعود الى المشهد السياسي الدولي من أوسع أبوابه، وبعدها ذهبنا سويا مع وفد من الإعلام الفلسطيني لنغطي هذا المؤتمر الشهير (مؤتمر مدريد للسلام) الذي جاء تحت ضغط انتفاضة 1987 المجيدة لشعبنا الفلسطيني والتي منذ انطلاقتها كانت "وفا" تنقل أخبارها وفعالياتها في كل قرية فلسطينية في نشرة خاصة أطلق عليها نشرة الانتفاضة، وتوزع على كافة وكالات الأنباء العربية والعالمية وسط محاولات إسرائيلية لمنع نشر أخبارها.
وفا ذاهبة إلى الوطن
بعد توقيع اتفاق أوسلو في البيت الأبيض من قبل الرئيس أبو مازن وشمعون بيرس، وبرعاية الرئيس الأميركي بيل كلينتون، وبحضور القائد أبو عمار وإسحاق رابين، ووزيري خارجية الولايات المتحدة وروسيا وارن كريستوفر وأندريه كوزيريف، وتبادل الخطابات الرسمية، تلقت "وفا" أكبر وسام على صدرها باعتراف من وكالة الأنباء البريطانية رويترز، بثته في إحدى برقياتها بأن وكالة الأنباء الفلسطينية )وفا( كانت الأسرع والسباقة في بث خطابات الرؤساء كاملة، ولتبدأ "وفا" مرحلة جديدة في مسيرتها بالاستعداد للانتقال إلى أرض الوطن في قطاع غزة بعد غربتها في الخارج لمدة اثنين وعشرين عاما، لينتقل فريق منها الأول ليسبق أبو عمار إلى غزة ممثلا بالأخ محمد الشرافي، والثاني يرافق الرئيس ممثلا في الأخوين سليمان إبراهيم وعلي حسين.
يحضرني هنا حوار من الذاكرة مع الأخ علي حسين متى سينطلق البث من غزة حتى نوقف البث من تونس، ليقول لي الأخ علي بمجرد وصول الرئيس أبو عمار إلى غزة، يصبح المقر الرسمي للوكالة حيث يوجد الرئيس ولتبني "وفا" مقرها الجديد بسواعد أبنائها وتبدأ في مرحلة البناء الداخلي ليصبح لــ"وفا" مكاتب ومراسلون في كافة المدن التي تنسحب منها إسرائيل، وأتيح لي الذهاب إلى غزة في العام 1996 وبرقم وطني أسوة بإخواني الفلسطينيين ليحصل كمواطن عربي مصري على الجنسية الفلسطينية الممثلة في الهوية وجواز السفر.