سأعود إلى هناك إما بجسدي أو بروحي...
عهود الخفش- يلملم ذاته المبعثرة، ليتناول مفتاح بيته المحتفظ به في حقيبته القديمة... يقلبه بيده المرتجفة. يمعن النظر فيه... يحصي بيأس عشرات التفاصيل المؤلمة التي تجتثم فوق صدره... وتتجمع في ذاكرته موجة ممزوجة بالحقد على المحتل الذي طرده من بلدته ليكون هو فيها... وأخرى شوقا لبيته وبياراته برائحتها التي تأبى الذاكرة من نسيانها...ليبقى خيط الحياة مشدودا على وتيرة واحدة... انا الفلسطيني "فايز الدقروق" وسأعود الى بلدتي المجدل، وان لم يكن القدر مسعفا لذهاب جسدي فستكون روحي هناك..
وتبقى المجدل في ذاكرتنا
تحت ظلال شجرته في مدينة سلفيت والتي اتخذها والده مسكننا لهم، بعد أن طردهم الاحتلال من بلدته المجدل، فتح الحاج "فايز الدقروق"البالغ من العمر 74 عاما، باب ذكرياته على إيقاع صوت العصافير، وأطلق العنان لذاكرته مع نسيم الهواء، الذي يداعب أغصان الشجرة، ليستعيد الماضي قائلا": ولدت في المجدل "الصادق" عام 1939، وهجرت منها وكان عمري 9 سنوات، ما زالت اذكر كل شيء، أجمل أيامي قضيتها هناك رغم صغر عمري، تنهد وبصوت مخنوق يكمل حديثه عن قريته قائلا": هي قرية من قرى فلسطين الكثيرة التي أخفى الاحتلال الاسرائيلي معالمها، واقتلعوا أهلها من أرضهم، وبالرغم من هذا لم يقتلعوا من ذاكرتنا أن "مجدل الصادق" تقع على تلة شرق مدينة يافا وتشرف عليها، ويحيط بها قرى كفر قاسم والزاوية ورافات ودير بلوط. وتقع بجوارها خربة أم البريد وخربة أم التينة، وخربة ذكرين وخربة أم الطوقي، وهي ذات موقع استراتيجي حيث تطل على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وتبلغ مساحة القريه "26632" دونما، وكلها استولى عليها الاسرائيلين.
صمت وكأنه يستذكر شيئا ما ليعود لمتابعة حديثه بفيض من مشاعر الحزن العميق قائلا": اذكر تلك الليلة التي هجرنا فيها، وكانت بتاريخ 13/7/1948، عندما قامت المنظمات الصهيونية المسلحة بهدم القرية، وتشريد أهلها البالغ عددهم عام 48 "1763" نسمة، وفي تلك الليلة وعند حضورهم قاموا بضرب البيوت و السكان بالمدافع والرصاص من كل حدب دون رحمة، ودون اعتبار أننا مواطنين عزل، ولكن هذه هي عنصريتهم وحقدهم الدفين المستأصل في عقيدتهم، تلك العقيدة التي تعلمهم أنهم فوق البشر، وأنهم شعب الله المختار، وان لهم خيار الأرض، لتكون "فلسطين" مسرحا لعقائدهم التي تخلوا من الإنسانية، متناسيين أننا أصحاب هذه الأرض، وأننا سنعيدها لنا حتى لو طال الزمان.
وبصوت مجروح يردف الحاج "فايز"قائلا": أخذنا بالهروب نحن وأمهاتنا والكبار بالعمر، وبقي في القرية الرجال يقاومون المحتل، تألمنا وبكينا كثيرا، ولم نأخذ معنا شيئا، وظلينا نركض تارة ونسير تارة أخرى، وتفرق الأهالي للقرى والبلدات المجاورة، ويبلغ مجموع ممن تشردوا حوالي (10828) نسمة، ويضيف "عائلتي توجهت إلى مدينه سلفيت، لأنه يوجد لنا فيها أقرباء ولكن خجلنا أن نذهب للسكن معهم، فذهبنا إلى المدارس في المدينة، وأقمنا فيها
صمت واخذ يردد قائلا:" الوقت جار علينا " وكنا ننام في الغرفة الواحدة ما بين عشرة إلى اثني عشرة شخصا، وما أصعبها من أيام، وبقي والدي يبحث لنا عن مسكن يأويننا بمساعدة أقربائنا إلى أن وجدنا بيتا تحت الأرض، قديم جدا ولا يصلح للسكن فيه ولكن " شو الي بيرميك على المر غير الأمر منه " وأصبحنا نتلقى المساعدات من وكالة الغوث واللاجئين.بعد أن كنا نعيش من خلال أراضينا وبياراتنا "
لم يبقى منها سوى أجزاء من القلعة
ويلتقط أنفاسه ليعيد ترتيب خيوط ذكرياته، وكأنه يريد أن يزيل عن كاهله هموما وأحزانا نسجها محتل غاصب قائلا": ما أجملها من أيام، أيام طفولتي عندما كنا نجتمع مع أصدقائي ونلعب سويا ونركض بين بياراتنا المزروعة بالحمضيات، وخصوصا البرتقال، وما أجمل أرضها الخصبة، التي ينبع منها نهر العوجا،تنهد لتخرج كلماته بحسرة وألم قائلا": لم يبقى شيئا كل شيء اختفى وتغيرت معالم قريتي، ولم يبقى منها سوى أجزاء من "برج القلعة" كما اخبروني كل من يذهب إلى المنطقة المحيطة بالمجدل، بقي شامخاً ليشهد للتاريخ على جرائمهم وحقدهم،ومع صغر عمري ما زلت اذكر مكان بيتنا لغاية الآن، ولو ذهبت إلى هناك لعرفت وحددت مكانه، واعرف موقع أراضينا التي سنعود اليها.
الكبار يموتون والصغار مصرون
أشعل سيجارته واخذ نفسا عميقا، احتجز دخانها لثواني وبدأ ينفذ ه بغضب ويده ازدادت ارتجافا، وكأن شريط حياته مر أمامه سريعا موجعا، ليكمل قائلا": استيقظنا على واقع مرير تهجير، تشريد، تجويع وحرمان من ابسط متطلبات الحياة مقابل وعودات، اننا سنعود خلال ايام قليلة إلى المجدل..ولكن كأن شيئا لم يكن وان هذه نكبتنا، ماذا أقول؟ لم يبقى لنا شيء، إلا الأمل وحلم العودة إلى قريتي واشتم رائحة ترابها وموتي في أرضها. ويبقى الأمل بعودتنا يوما ما، وإذا ماتت أجسادنا فستبقى أرواحنا هناك، ولو متنا نحن الكبار لكن الصغار لن يموتوا كما قيل وان ماتوا سيأتي صغار آخرون".