الشهيد حسن أبو زيد: لا الأرض هنأت بجسده ولا السماء استقبلت روحه
عمر نزال
في الحي الشرقي من قباطية، كبرى بلدات محافظة جنين، وفي منزل متواضع احتضن الشهيد حسن أحمد أبو زيد في طفولته وشبابه الذي لم يكتمل، ولا يزال يحتضن أسرته المقهورة لا على فراقه فحسب، بل بسبب معاقبة سلطات الاحتلال لجثمانه على مدى أكثر من ست سنوات، وبسبب عجز الهيئات الدولية والمحلية.
أمل الأسرة في استرداد جثمانه بات معلقاً بعملها ونشاطها في أطار الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء، عل أرض قباطية التي احتضنته حياً تحتضن يوماً جثمانه وتكرمه بما يليق بشهيد فدى نفسه للوطن فقدم روحه وجسده قرباناً لما آمن به وعمل من أجله لينال شهادة الشرف مرتين، مرة باستشهاده وأخرى باحتجاز جثمانه.
قباطية.. بلد الحجر الأبيض والزرع والزيتون الأخضر، المعروفة بصلابة وعناد أهلها بالحق، وبحفاظهم على قيم الحياة النبيلة، قارعت الانتداب والعصابات الصهيونية منذ ثورة 1936-1939، دافعت عن نفسها بدم ابنائها ودم المساندين من العرب فكان لسهولها شرف احتضان شهداء الجيش العراقي في معارك الدفاع عن فلسطين عام 1947، خاضت غمار المقاومة مبكراً بعد ان خذلت عام 1967، كانت أول من لفظت من خانها في الانتفاضة الأولى عام 1987 وجعلتهم عبرة على رؤوس اعمدة الكهرباء، فتحت بيوتها عريناً للفهد الأسود، على اشجارها عشعش النسر الأحمر، في سمائها سطع النجم الأحمر، وفي حواريها التقى الأخوة والرفاق والمجاهدين مؤكدين رفضهم تصنيف المقاومين وتقسيم ابناء الشعب فكانت مثالاً لوحدة الدم والارادة.
في هذه البيئة تربى الشهيد حسن الابن الأصغر لميكانيكي السيارات " ابو رامي "، آثر العمل مع والده في مهنته للاسهام في اعالة عائلته المكافحة من اجل لقمة العيش، كان مطيعاً لوالده، وخلوقاً مع اسرته وابناء بلدته ما اكسبه احترام الجميع، أحب فلسطين وشعبها، وهاله مشاهد القتل والتنكيل بابنائها فقرر الرد بطريقته، فقتل خمسة منهم وأصاب نحو أربعين بجراح حين فجر نفسه في مجمع تجاري وسط مدينة الخضيرة، في شهر رمضان عام 2005.
لا الأرض هنأت بجسده ولا السماء استقبلت روحه
ست سنوات مضت على استشهاده وجرحنا لازال غائراً، تقول والدة الشهيد، غليان يجري في عروقي، لا يهدأ لي بال مطلقاً، أتذكر كل حركة له في هذا المنزل، افتقده بالأعياد وفي كل مناسبة، فحتى اليوم لم نرى جثمانه لنحسم أمره، فجثمانه معلق بين السماء والأرض، فلا الأرض تهنأ به ولا السماء تستقبله.
فجأة تغيرت ملامح حسن، أصبح أكثر جدية وأكثر حرصاً على تفاصيل حياتنا، تضيف الوالدة ام رامي بينما الدمع لا يفارق عينيها وهي تروي تفاصيل الأيام الأخيرة التي سبقت استشهاده، فيما والده الستيني الذي بدا أكثر ثباتاً وتماسكاً مبدياً اصراره على متابعة قضية استرداد جثمان ولده يضيف: كان يردد انه سيستشهد وانه يحب الشهادة وهذا ما كان يقلقنا، ويضيف: كان شعور أمه صائباً ونقلت لي أحساسها تجاه حسن فقررت ان أدفعه للسفر الى الأردن، ووقعت مشادة حادة بيننا انتهت الى وعد من حسن بالعدول عما يجول في خاطره، وان يلتزم بالمهنة المشتركة بيني وبينه حتى اصبحت اعتمد اعتماداً كلياً عليه، كان ذلك كله قبل شهر ونصف من استشهاده. ولكن تبين ان ذلك لم يكن سوى رسالة تطمين وهمية هدفت لترطيب الاجواء بيننا، فيما استمر هو على ما يبدو في تحضيراته للمضي قدماً في انجاز مهمته النضالية.
ويضيف الوالد، في شهر رمضان وقبل أيام من استشهاده، لم يكن حسن الذي عرفناه، كان دائم التفكير، مقل في تناوله للطعام ويكثر من الصلاة في كل الاوقات ويقرأ القرآن الكريم طوال الليل مع انه لم يكن متديناً الا في الفترة الاخيرة قبل استشهاده.
ويواصل ابو رامي: حتى قبل استشهاده بيوم، كانت والدته تحضر الخبز العربي في الطابون، أشارت الى حسن لمساعدتها، فطلب منها ان ترتاح لأنه سيقوم بكل ما يلزم لتحضير خبز الطابون، وكذا فعل معي، حيث طلب مني ان ارتاح في ذلك اليوم وانه سيقوم بتصليح السيارات بدلاً عني، وفي نهاية يوم العمل قام بترتيب المحل بطريقة غريبة، حيث وضع كل شيء في مكان واضح وصنّف العدة حسب الأصول حتى يريحني، لم انتبه لذلك حينها لأنه كان قد اعطى انطباعاً بعد اشكالنا الأخير معه بأنه اصبح أكثر حباً للحياة واقل اهتماماً بالسياسة.
أخبرني بأنه سيعمل في محل بمنطقة الفارعة، تقول ام الشهيد، وطلب مني ان اوقظه وقت السحور رغم أنه لم يكن يهتم بهذه الوجبة الرمضانية، عند السحور وجدته مستيقظاً قبلي، سألته عما يرغب به من طعام، فأجاب انه لا يريد ان يتعبني وانه سيقوم بتحضير وجبته بنفسه، لم يكن القلق عليه قد غادرني، تضيف أم رامي، فبادرته مباشرة بمجموعة اسئلة حول عمله الجديد في مجال تصليح السيارات كما قال، وسألته مع من سيذهب واين مكان الالتقاء، وكان يجيب باقتضاب "هنا مع اصدقائي" دخل المطبخ لتناول السحور، ثم زار غرفة اخواته البنات وتفقد احوالهن وهن نيام، وغادر البيت بعد أذان الفجر الأول.
مر وقت دون ان يتصل، وكان هاتفه النقال مغلقاً حين حاولنا الاتصال به للاطمئنان عنه، ثم وجدنا الهاتف وقد تركه في المنزل، خطر لي انه اعتقل على يد الإسرائيليين، تتابع أم الشهيد، عند العصر سألت صديقه الذي اخبرني حسن بأنه سيذهب معه للعمل، فاجابني الصديق بان لا علم له بذلك، عندها دق ناقوس الخطر، واعتقدت جازمة انه اعتقل بتهمة كبيرة.
في الأثناء سمعت بناتي وأختي نبأ وقوع عملية استشهادية في الخضيرة، وتوقعن ان حسن هو بطلها، لكن احدا لم يخبرني بذلك، كنت أبكي وأدور حول نفسي، ابحث في خبايا البيت والحديقة، حتى كان آذان المغرب وحضر ابو رامي، فتوسلته ان يسأل عن حسن، ولكنه رد مقاطعاً بشكل فاجئني وصدمني " هناك عملية في الخضيرة وان منفذها بلا ادنى شك هو حسن" وهذا ما تأكد بعد قليل حين أعلنت مكبرات الصوت في مساجد قباطية خبر العملية ونعت الشهيد حسن.
رد الاحتلال .. عقاب الأسرة
لم يتأخر رد الاحتلال، ففي سياق سياسة العقاب الجماعي اعتقلت قوات الاحتلال في ذات اليوم والد حسن لمدة ثمانية أيام خضع خلالها للتحقيق، ويروي أبو رامي: لقد اراد المحقق تعذيبي ليس فقط بابعادي عن اسرتي الحزينة على فقدان حسن، بل وصل بهم الأمر لكي يعرضوا علي صورة لحسن لا تظهر إلا رأسه، وهو يقول لي هذا ما تبقى من ولدك، مجرد رأس بلا روح، وقد استمر التحقيق معي طوال الايام التي قضيتها عندهم.
أما والدة حسن والتي كان قد سيطر الذهول والصدمة عليها جراء سماعها لخبر استشهاد ابنها واعتقال زوجها فتقول: لم أدرك ما يجري حولي، ساد هرج ومرج شديد في البلدة، وانتشر خبر نية قوات الاحتلال بهدم المنزل، فساهم جميع الأهالي بتفريغ البيت من محتوياته استعداداً لتنفيذ الهدم، وبقينا في وضع مضطرب لمدة شهر ونصف الشهر، الى ان بدأنا بالعودة التدريجية الى المنزل. يبتسم والد حسن بمرارة ويضيف: لقد عشنا ظروفاً استثنائية، غريبة عنا كأسرة ولكنها ليست كذلك بالنسبة للفلسطينيين.
الصليب الأحمر لا حول له ولا قوة، والأمل معقود على الحملة الوطنية
ساد صمت ثقيل عند السؤال عن الطرق التي اتبعتها العائلة لاسترداد جثمان الشهيد قبل ان يقول ابو رامي انه في البداية لم يتم التوجه لاحد لعلمه المسبق بصعوبة ان لم يكن استحالة استلام جثمان ابنه، فهو سمع عن حالات عديدة في منطقة جنين، وبات يعرف ان الاحتلال يحتفظ بما يتبقى من جثامين الشهداء أما في مقابر الأرقام او في ثلاجات، ويرجح ان جثمان حسن موضوع في ثلاجة، حيث علم من مصادر صحفية ان كافة الذين استشهدوا بعد عام 2005 لم يدفنوا وانما وضعوا في ثلاجات.
ويتابع ابو رامي بأن جمعية الصليب الاحمر الدولي اتصلت به وابلغته أنها ستتابع ملف جثمان حسن، فتوجه اليهم لتعبئة استمارة للشهيد وأرسل طلب المطالبة بجثمان حسن، ولكن المنظمة الدولية ابلغته بأنها لا تعد باسترداد الجثمان فهي لا تملك القوة ولا القرار بذلك، ويضيف ان أي جهة رسمية فلسطينية او دولية لم تتواصل معه بل لم تثر القضية، ويستدرك، باستثناء الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء التي ينشط معها أبو رامي ويتفاعل مع اللقاءات والمسيرات والانشطة التي تنظمها في منطقة جنين حيث يوجد حوالي 40 عائلة أخرى يحتجز الاحتلال جثامينهم أو ما تبقى منها منذ فترات طويلة.
اسرائيل تعاقب العظام
ألا يستحق حسن المسلم أن يدفن على الطريقة الاسلامية ويصلى عليه؟ يتساءل والده، فيما تمضي الوالده قائلة بحزن وأسى: اشتاق لحسن، وارغب في زيارة قبره وقراءة الفاتحة عن روحه، هذا أملي الذي لم يتحقق، قلوبنا غامرة بالحزن والأسى ولن يزيل ذلك سوى معرفة مكان وجود الجثمان ورؤيته.
ويؤكد ابو رامي: ان المسألة ليست مرتبطة بمناسبات محددة لنتذكر حسن، فصورته لم تغب عن اذهاننا وذكراه في قلوبنا، ولكم ان تتصوروا حجم الضغط النفسي علينا ونحن لا نستطيع ان نحدد اين حسن على هذه الخارطة، مشيراً الى خارطة فلسطين التاريخية، فكأن حسن لم يكن، والاحتلال يريد لنا ان نتعايش مع هذا، ولكن أقل ما نريده هو رؤية الجثمان اذا كان في ثلاجة او زيارة قبر مرقم ان كان في مقبرة الأرقام. ويضيف فيما المدمع يتلألأ في مقلتيه: أهذا كثير علينا ؟! ألسنا كباقي البشر ؟! أيعاقب حسن بذلك أم والدته وأنا ؟!.
حسن يستشهد من جديد
ويواصل ابو رامي: أن الاحتلال كان قد تراجع عن وعده لحسين الشيخ بالأفراج عن الجثامين قبل نحو عام ما شكل ضربة مؤلمة لنا ولكل اسر الشهداء، حينها شعرنا ان نافذة أمل فتحت امامنا ثم سرعان ما اوصدت مجدداً. وكان رئيس هيئة الشؤون المدنية الوزير حسين الشيخ قد اعلن قائمة بأسماء ثمانين شهيداً وافقت اسرائيل على الأفراج عن جثامينهم وكان اسم الشهيد حسن ابو زيد مدرجاً بينهم، الا ان الاحتلال سرعان ما نفى ذلك وتراجع عن وعده او قراره. ويصف ابو رامي ما حصل: عند سماع الخبر تفائلنا قليلاً، ثم بعد ان تراجعوا شعرنا بان حسن استشهد من جديد.
وفي هذه الأيام حيث هناك وعد جديد بالافراج عن غالبية الجثامين خلال الاسبوع الجاري، فان نافذة الأمل تفتح من جديد، ولكن السؤال يبقى قائماً برسم التنفيذ، هل تفي اسرائيل بوعدها؟ أم ان ما يجري هو استحقاق وجزء من اتفاق انهاء اضراب الأسرى؟ وهل سيتشهد حسن للمرة الثالثة ؟ خاصة وان اسمه قد ورد ضمن قوائم اسماء الجثامين المزمع الافراج عنها.
بدل حسن حسنين
والى ان يستعاد جثمان الشهيد ليحتضنه ثرى قباطية، والى ان تستقبل السماء روحه، والى تجف دموع والديه وأسرته ومحبيه، فان العائلة، تقديراً لتضحيته وبطولته وفخراً به وتخليداً لذكراه، أطلقت اسم حسن على اثنين من احفادها ليصبح لديها بدل حسن حسنين.