زياد عبد الفتاح: أردنا لـ"وفا" أن تكون فوق رؤيتها المهنية برؤية سياسية (2)
لم نكن كثراً، ولكننا اندمجنا تماماً، وفي آخر كل مساء عندما ننتهي من تحرير النشرة الرئيسية، وتكون الراقنات أنجزن مهماتهن، نبدأ السحب على الرونيو، ثم نقوم بتجميع الورق ونبدأ في ترتيبه وتنسيقه وتدبيسه، تمهيداً لتوزيعه على الصحف والوكالات. كان عوني النتشة "أبو العون" ينطلق كل مساء بالنشرة يوزعها. وفي كل مساء تقريباً يثير من المشـاكل، ما ننشغل بها، غير أنه كــان أبو العون وكان معلماً من معالم "وفا".
كان الكل يعمل: المحررون والمراسلون ورئيس الوكالة ونائبه وسكرتير التحرير، وكل زائر يتصادف وجوده. عمل جماعي بألفة وحب، وإيمان بالقضية التي تكرسنا كلنا للدفاع عنها والقتال بكل الوسائل من أجلها، في الداخل والخارج والشتات.
كانت الشقة في بناية النصر في الفكهاني مقراً وخلية نحل لا تهدأ. كل عدّتها بخلاف "الرونيو" والآلات الكاتبة، أربعة هواتف كانت هي أساس عملنا ووسيلة اتصالنا. لكن كان هناك هاتف هو الأهم الذي جعل عملنا أكثر حيوية، ويسّر لنا في أوقات كثيرة سبقاً صحفياً، لا تستطيعه وكالات الأنباء الأخرى. هاتف مرتبط بشبكة داخلية تنظم عمل كل المؤسسات الفلسطينية، وتربط بينها وبين القيادات المختلفة، بدءاً من القائد العام ياسر عرفات وحتى أعضاء اللجنة المركزية لفتح والتنفيذية لمنظمة التحرير، لذا كان من اليسير لنا الاتصال بأي من هذه القيادات والمراتب التنظيمية والمؤسسات، للحصول على خبر، أو التأكد من تصريح، أو تفسير خطاب أو رسالة. ذلك الهاتف الذي كنا نطلق عليه "الخط العسكري" ظل يمدنا بمعلومات أساسية وهامة، كانت أساس تميزنا.
لم تكد "وفا" تبدأ العمل، حتى بدأت نشاطاً آخر في سلسلة نشاطاتها، تمثل في الاتصال بوكالات الأنباء العربية والأجنبية وإقامة علاقات معها. وفي الحقيقة فإن هذه العلاقات يسرت لنا بث أخبارنا على نحو عاجل جداً، حين كانت أهمية المادة الإعلامية تفرض نفسها، فتتلقفها الوكالات وتبثها نقلاً عن "وفا". تلك الخدمة لم تكن خالصة لوجه الله، فلقد كانت بعض الوكالات تشترط اشتراكاً بمقابل، والبعض الآخر كان يتوسل أن يكون الأول في تلقي أخبارنا، على أن يتم بثها للوكالات الأخرى بعد دقائق.
وفي الحقيقة فإن انطلاقنا لم يكن ليكون على ذلك النحو من الزخم، لولا أن الخبر الفلسطيني، ظل على امتداد السنوات والعقود سلعة رائجة، إن لم تكن السلعة الأولى، تنتجها وتؤسس لها حركة الثورة الفلسطينية، والنضال البطولي المسلح، الذي يخوضه الفلسطينيون منذ انطلاقتهم العاصفة عام 1965.
كان المقاتلون الفلسطينيون في الجنوب اللبناني، وداخل فلسطين المحتلة، وكافة مواقعهم الأخرى، يصنعون الخبر، بعملياتهم البطولية وتضحياتهم، وحيث كنا نكتب الخبر بالمداد، كانوا يكتبونه بالدم.
لكننا كنا ندفع من دمنا كذلك. فلقد استشهد العديد من القادة معظمهم كانوا مسؤولين عن الكلمة والإعلام، دفع بعضهم ثمن الكلمة التي آمن بها. أليس كمال ناصر وكمال عدوان وأبو يوسف النجار، ثم بعد ذلك ماجد أبو شرار عناوين وأسماء، أكثر من كافية لسرد حكايات عن نماذج قيادات، استشهدت تعبيراً عن الكلمة؟ فالكلمة حين تنطلق نحو هدفها، مدعمة بقوة الحجة وعدالة القضية، تصبح بخطر لا يقل عن خطر البندقية.
لقد كان كمال ناصر مسؤول الإعلام الموحد في المنظمة، وكان كمال عدوان مسؤول إعلام فتح وكان ماجد أبو شرار قائداً إعلامياً بموهبة فذة. كان يقود الإعلام الموحد بفكر منفتح وإبداع متميز. كما استشهد شباب عملوا في الوكالة بعضهم دفع حياته أثناء عمله في مقرها. هل يمكن القول أننا نجونا كثيرا من موت محقق؟ أظن ذلك تماماً، وأعتقد أن حياتنا الآن ربما هي صدفة مضافة.
لقد استشهد في الشقة المقابلة لرئاسة “وفا” والأخرى المقابلة لصالة التحرير، اثنان من العاملين في الوكالة، سقطت فوقهما القذيفة ولم تسقط فوقنا. أحدهما شاب جميل اسمه عثمان عثمان والآخر مميز وكان اسمه أحمد صالح جمعة، وسقط بعض الجرحى. انتشرت رائحة الموت وعمّ الدمار الطابق الذي اتخذناه مقراً لنا في "الشارع الأخير" بعد أن ضاقت بنا الشقة الأولى في بناية النصر. لم يكن المكان بعيداً، كنا في شارع مقابل يحتضن عشرات المقرات الإعلامية والسياسية والعسكرية وخلافها.
كانت "وفا" والإذاعة على خط واحد، في شارع صغير واحد، ومقابلها كانت الدائرة السياسية والمجلس الثوري لحركة فتح، وبجوارها مالية فتح ومقر الحزب الشيوعي الفلسطيني، والشيوعي العراقي، واللاجئون السوريون وكل لاجئين آخرين فروا من قمع الأنظمة. لا أريد أن أتوسع كثيراً في ذكر التفاصيل ولكنني فقط ظللت أهتم بإقحام الذاكرة في مفاصل، كان لا بد من التطرق لها، فلقد كانت الوكالة أو هكذا أردنا لها في هيئة التحرير أن تكون فوق رؤيتها المهنية، برؤية سياسية، تعتبر الثورة الفلسطينية جزءاً من حركة التحرير في العالم، فعلاً لا قولاً وحسب.
أو لنقل أردناها أن تظل برؤيا تطـل علـى عـوالم المناضلين مـن كـل الأوطـان العربية، وبقاع العالم. وهنا لا أريد المضي مرة أخرى بعيداً، في استرجاع ما هو توثيقي أو وثائقي، إلا أنني أجد نفسي مضطراً لأكثر من سبب، الى ذكر أشخاص بعينهم من وطننا العربي المترامي غادروا أنظمتهم هرباً من البطش والاغتيال، نحو ذلك الحضن الدافئ الذي مثلته حركة التحرير الوطني الفلسطيني.
ومن مصر مّر ببيروت العديد من المناضلين المصريين هرباً من السجون والقمع، واستقروا في حضن الثورة الفلسطينية وبشكل خاص جداً ومميز، في وكالة الأنباء الفلسطينية "وفا"، من هؤلاء عدلي فخري المغني والمهندس الزراعي والفنان، الذي قضى في بيروت مدة الحصار، يغني للصمود في ملاجئ بيروت من أقصاها إلى أقصاها.
وعبد المنعم القصاص الصحفي والرسام اللامع، وعبد الرحمن الخميسى الذي لم يعمل معنا، ولكنه كان يعتبر "وفا " بيته ومقامه الذي يتفيأ بظله.
وكان كذلك سيد خميس وآخرون كثيرون. غير أنني لا استطيع أن أقفل على الذاكرة، قبل أن أذكر اثنين من الشباب المصري، الذين وفدوا إلينا وعملوا معنا أحدهما اسمه الحركي طاهر الشيخ، والحقيقي محمد شولاق، والثاني حسين عباس. لقد كان هذا الاثنان بنشاط وحيوية، ولم يتأخرا يوماً عن أداء مهمة مهما كانت نوعية وخطرة، غير أنني لن أنسى الصحفي والفنان فهمي حسين الذي طلق روز اليوسف من أجل الثورة.
ومن العراق انضم لنا حيناً، وغادرنا أحياناً ليعود من جديد، الشاعر المجيد سعدي يوسف والشاعر الجميل جليل حيدر، أما من سوريا فقد عمل معنا فى الوكالة الروائي حيدر حيدر ومن الأردن المناضل الطلابي والصحفي، ثم فيما بعد وزير الإعلام الأردني صالح القلاب. أما من لبنان فحدّث ولا حرج. ولنا أن نسأل في ذلك بشارة مرهج ومعن بشور وعشرات الأشخاص، الذين نكن لهم الحب والاحترام، من منظمة أمل، وحزب الله وآخرين.
تعمدت أن أذكر هؤلاء جميعاً بشخوصهم وأوطانهم، على سبيل المثال، لا الحصر، لأنني أردت أن أسجل في تاريخ "وفا"، بأنها كانت الرافعة الأعلى من بين مؤسسات الثورة الفلسطينية ومنظمة التحرير، إيماناً بقومية الثورة والكفاح المسلح، ولقد كان يمكن أن أمضي أبعد، لولا أن هذه مناسبة للتركيز على المفاصل، وليس علي التفاصيل.
وفي الحرب الأهلية اللبنانية، التي أريد لها عنواناً يشغل اللبنانيين ويذهب بهم بعيداً، فتكون المجابهة بين الفلسطينيين واللبنانيين، لعبت "وفا" دوراً مركزياً. لم تتوقف عن الانحياز للثورة، التي كان من الطبيعي أن تنحاز لها، ولكنها جاوزت ذلك إلى حدود الانخراط في شؤون الحركة الوطنية اللبنانية وشجونها.
لذلك اقتربت "وفا" من الوطنيين اللبنانيين، وحيث أنها كانت تزن دورها بميزان الذهب، فإنها لجأت إلى الحليف الوطني اللبناني، فأنفقت وقتاً وجهدا عاليا للعمل معه بهمة ونشاط، مثلما أنفقت جهداً أكبر للعمل من خلال الصحافة اللبنانية.
ولقد جاءت الفرصة مفاجئة، حين طلبت أرملة الصحفي المرحوم سهيل حموي موعداً للقاء مع المسؤولين في وكالة "وفا"، حيث أعلنت أن الوكالة التي يملك امتيازها زوجها تحت اسم وكالة الأنباء اللبنانية، لا يجب التفريط بها. وأنها وفاءً لذكرى مؤسسها الراحل سهيل حموي، لن تكون إلا وكالة وطنية وقومية ولا تخدم سوى الخط الثوري في أمتنا العربية!!
لقد دفعنا هذا التصريح إلى إطلاق فكرة أن تكون الوكالة اللبنانية، رافدا جديداً لوكالة "وفا". ولقد تم الاتفاق بأن تكون بمثابة الصوت الآخر أو غير المباشر لوكالتنا. وعلى الفور انتبه الأخ أبو عمار "ياسر عرفات" إلى أهمية الخطوة، فأعطانا صلاحيات كاملة في إدارة الشؤون المشتركة مع وكالة الأنباء اللبنانية. وهكذا أصبح صالح القلاب بقرار من قيادة "وفا" مديراً لتحرير الوكالة اللبنانية، وحيث أننا كنا نؤمن بأن المؤسسات الصحفية "البلّوشية " يعني التي هي "ببلاش"، لا تقدم ولا تؤخر، فأننا انتدبنا للعمل مع صالح القلاب، محمد رشيد، الذي كان اسمه الحركي خالد سلام، وهو من أكراد العراق، وكان شاباً صغيراً، وعلى وشك الزواج من فتاة مخيم فلسطينية، مصوّرة وصحفية تعرف إليها خلال العمل في جبهة النضال الفلسطيني. كان محمد رشيد أو خالد سلام، شاباً نشيطاً ومستعداً للعمل في ظل الظروف.
خدمت وكالة الأنباء اللبنانية القضية الفلسطينية بجدية وتفان جميل، واستطاعت الوصول الى صحف الخليج والتعاقد معها والكتابة لها بمقابل مادي، عن لبنان وعن القضية الفلسطينية.
غير أن وكالة وفا لم تقتصر على العمل من الباطن من خلال وكالة الأنباء اللبنانية، وإنما أرادت أن تقفز قفزة نوعية أخرى. كان همّ الوكالة الدخول إلى فلسطين الشعب والوطن، فسعينا بإخلاص إلى تحيّن الفرص لإنشاء قاعدة للوكالة في القدس.
النجاح قدَرٌ صعب، فما إن تبلغ نجاحاً حتى تحتاج قدرة وتجاوزاً، يُسلمك إلى نجاح جديد.
والقمة بعيدة المنال، ولكي تدركها فإنك تحتاج إلى جهد وعرق وأحياناً إلى بذل دم واجتراح إبداع وإعمال فكر وخيال. وأنت أمام منافسة هائلة، تلعب فيها تكنولوجيا المعلومات، يوماً بعد يوم دوراً لا تملك التقدم بدونه. وإذا كان الخبر هو الأساس، فإن ثمة مكونات أخرى أصبحت لا غنى عنها، تخدم منظومة الإعلام.
لذلك أدركنا مبكراً في هيئة التحرير أهمية الصورة. واعتقدنا في لحظات كثيرة أن الخبر المعزز بالصورة له شأن مختلف وقيمة أكبر ومصداقية أعلى وأوفر. مصداقية توثيقية تضعك في المقدمة وتكسبك نكهة تضيف الى رصيدك.
ولقد أنشأنا في وقت خاطف قسماً للتصوير الفوتوغرافي، في البداية كان القسم يتبع مؤسسة السينما الفلسطينية، لكن التصوير الفوتوغرافي والصحفي، تظل له متعته و وظيفته المجيدة.
وفي الحقيقة فإننا في "وفا" ولأسباب تتعلق بمنافسات مهنية، آثرنا عدم الذهاب بعيداً في تماهياتها، قمنا بالاعتماد على مؤسسة السينما. كنا نطلب منهم إيفاد مصورين إلى مكان الحدث، نبعث بهم ليلتقطوا ما يخدم الخبر ويعزز مصداقيته، لكن الأمر لم يكن ليستقيم طويلاً.
حيث رحنا شيئاً فشيئاً ننشئ قسم التصوير الصحفي الخاص بالوكالة. ظللنا ننفخ فيه ونطوره حتى أصبح بمضي الوقت مصدراً أساساً ليس في إثراء الخبر وتدعيمه بالصورة التي لا تكذب، وإنما دفعنا بهذا القسم بعد سنوات طويلة طويلة من الجهد والتخطيط وأعمال الفكر والخيال، إلى أن يصبح مؤسسة متكاملة، تمتلك أرشيفاً واسعاً يعد بمئات آلاف الصور. لقد منحت قيادة "وفا" لهذا القسم حرية وثقة، حيث كان يزود الصحافة المحلية وغيرها بصور أحداث، وصور أرشيف كذلك.
ولقد وصلنا لتلك الصور إلى حدّ أنها أصبحت مسجلة وموثقة الكترونياً. حدث ذلك في أواخر التسعينات في أعقاب اتصالات وعلاقات دؤوبة مع منظمة التربية والثقافة والعلوم "اليونسكو"، التي أمدتنا بكل ما ساعدنا على توثيق تاريخ حافل بالنضال والعطاء، بصور نادرة وأفلام وثائقية شكلت علاقة بارزة في مسيرة وكالة الأنباء الفلسطينية "وفا".
كان الكل يعمل: المحررون والمراسلون ورئيس الوكالة ونائبه وسكرتير التحرير، وكل زائر يتصادف وجوده. عمل جماعي بألفة وحب، وإيمان بالقضية التي تكرسنا كلنا للدفاع عنها والقتال بكل الوسائل من أجلها، في الداخل والخارج والشتات.
كانت الشقة في بناية النصر في الفكهاني مقراً وخلية نحل لا تهدأ. كل عدّتها بخلاف "الرونيو" والآلات الكاتبة، أربعة هواتف كانت هي أساس عملنا ووسيلة اتصالنا. لكن كان هناك هاتف هو الأهم الذي جعل عملنا أكثر حيوية، ويسّر لنا في أوقات كثيرة سبقاً صحفياً، لا تستطيعه وكالات الأنباء الأخرى. هاتف مرتبط بشبكة داخلية تنظم عمل كل المؤسسات الفلسطينية، وتربط بينها وبين القيادات المختلفة، بدءاً من القائد العام ياسر عرفات وحتى أعضاء اللجنة المركزية لفتح والتنفيذية لمنظمة التحرير، لذا كان من اليسير لنا الاتصال بأي من هذه القيادات والمراتب التنظيمية والمؤسسات، للحصول على خبر، أو التأكد من تصريح، أو تفسير خطاب أو رسالة. ذلك الهاتف الذي كنا نطلق عليه "الخط العسكري" ظل يمدنا بمعلومات أساسية وهامة، كانت أساس تميزنا.
لم تكد "وفا" تبدأ العمل، حتى بدأت نشاطاً آخر في سلسلة نشاطاتها، تمثل في الاتصال بوكالات الأنباء العربية والأجنبية وإقامة علاقات معها. وفي الحقيقة فإن هذه العلاقات يسرت لنا بث أخبارنا على نحو عاجل جداً، حين كانت أهمية المادة الإعلامية تفرض نفسها، فتتلقفها الوكالات وتبثها نقلاً عن "وفا". تلك الخدمة لم تكن خالصة لوجه الله، فلقد كانت بعض الوكالات تشترط اشتراكاً بمقابل، والبعض الآخر كان يتوسل أن يكون الأول في تلقي أخبارنا، على أن يتم بثها للوكالات الأخرى بعد دقائق.
وفي الحقيقة فإن انطلاقنا لم يكن ليكون على ذلك النحو من الزخم، لولا أن الخبر الفلسطيني، ظل على امتداد السنوات والعقود سلعة رائجة، إن لم تكن السلعة الأولى، تنتجها وتؤسس لها حركة الثورة الفلسطينية، والنضال البطولي المسلح، الذي يخوضه الفلسطينيون منذ انطلاقتهم العاصفة عام 1965.
كان المقاتلون الفلسطينيون في الجنوب اللبناني، وداخل فلسطين المحتلة، وكافة مواقعهم الأخرى، يصنعون الخبر، بعملياتهم البطولية وتضحياتهم، وحيث كنا نكتب الخبر بالمداد، كانوا يكتبونه بالدم.
لكننا كنا ندفع من دمنا كذلك. فلقد استشهد العديد من القادة معظمهم كانوا مسؤولين عن الكلمة والإعلام، دفع بعضهم ثمن الكلمة التي آمن بها. أليس كمال ناصر وكمال عدوان وأبو يوسف النجار، ثم بعد ذلك ماجد أبو شرار عناوين وأسماء، أكثر من كافية لسرد حكايات عن نماذج قيادات، استشهدت تعبيراً عن الكلمة؟ فالكلمة حين تنطلق نحو هدفها، مدعمة بقوة الحجة وعدالة القضية، تصبح بخطر لا يقل عن خطر البندقية.
لقد كان كمال ناصر مسؤول الإعلام الموحد في المنظمة، وكان كمال عدوان مسؤول إعلام فتح وكان ماجد أبو شرار قائداً إعلامياً بموهبة فذة. كان يقود الإعلام الموحد بفكر منفتح وإبداع متميز. كما استشهد شباب عملوا في الوكالة بعضهم دفع حياته أثناء عمله في مقرها. هل يمكن القول أننا نجونا كثيرا من موت محقق؟ أظن ذلك تماماً، وأعتقد أن حياتنا الآن ربما هي صدفة مضافة.
لقد استشهد في الشقة المقابلة لرئاسة “وفا” والأخرى المقابلة لصالة التحرير، اثنان من العاملين في الوكالة، سقطت فوقهما القذيفة ولم تسقط فوقنا. أحدهما شاب جميل اسمه عثمان عثمان والآخر مميز وكان اسمه أحمد صالح جمعة، وسقط بعض الجرحى. انتشرت رائحة الموت وعمّ الدمار الطابق الذي اتخذناه مقراً لنا في "الشارع الأخير" بعد أن ضاقت بنا الشقة الأولى في بناية النصر. لم يكن المكان بعيداً، كنا في شارع مقابل يحتضن عشرات المقرات الإعلامية والسياسية والعسكرية وخلافها.
كانت "وفا" والإذاعة على خط واحد، في شارع صغير واحد، ومقابلها كانت الدائرة السياسية والمجلس الثوري لحركة فتح، وبجوارها مالية فتح ومقر الحزب الشيوعي الفلسطيني، والشيوعي العراقي، واللاجئون السوريون وكل لاجئين آخرين فروا من قمع الأنظمة. لا أريد أن أتوسع كثيراً في ذكر التفاصيل ولكنني فقط ظللت أهتم بإقحام الذاكرة في مفاصل، كان لا بد من التطرق لها، فلقد كانت الوكالة أو هكذا أردنا لها في هيئة التحرير أن تكون فوق رؤيتها المهنية، برؤية سياسية، تعتبر الثورة الفلسطينية جزءاً من حركة التحرير في العالم، فعلاً لا قولاً وحسب.
أو لنقل أردناها أن تظل برؤيا تطـل علـى عـوالم المناضلين مـن كـل الأوطـان العربية، وبقاع العالم. وهنا لا أريد المضي مرة أخرى بعيداً، في استرجاع ما هو توثيقي أو وثائقي، إلا أنني أجد نفسي مضطراً لأكثر من سبب، الى ذكر أشخاص بعينهم من وطننا العربي المترامي غادروا أنظمتهم هرباً من البطش والاغتيال، نحو ذلك الحضن الدافئ الذي مثلته حركة التحرير الوطني الفلسطيني.
ومن مصر مّر ببيروت العديد من المناضلين المصريين هرباً من السجون والقمع، واستقروا في حضن الثورة الفلسطينية وبشكل خاص جداً ومميز، في وكالة الأنباء الفلسطينية "وفا"، من هؤلاء عدلي فخري المغني والمهندس الزراعي والفنان، الذي قضى في بيروت مدة الحصار، يغني للصمود في ملاجئ بيروت من أقصاها إلى أقصاها.
وعبد المنعم القصاص الصحفي والرسام اللامع، وعبد الرحمن الخميسى الذي لم يعمل معنا، ولكنه كان يعتبر "وفا " بيته ومقامه الذي يتفيأ بظله.
وكان كذلك سيد خميس وآخرون كثيرون. غير أنني لا استطيع أن أقفل على الذاكرة، قبل أن أذكر اثنين من الشباب المصري، الذين وفدوا إلينا وعملوا معنا أحدهما اسمه الحركي طاهر الشيخ، والحقيقي محمد شولاق، والثاني حسين عباس. لقد كان هذا الاثنان بنشاط وحيوية، ولم يتأخرا يوماً عن أداء مهمة مهما كانت نوعية وخطرة، غير أنني لن أنسى الصحفي والفنان فهمي حسين الذي طلق روز اليوسف من أجل الثورة.
ومن العراق انضم لنا حيناً، وغادرنا أحياناً ليعود من جديد، الشاعر المجيد سعدي يوسف والشاعر الجميل جليل حيدر، أما من سوريا فقد عمل معنا فى الوكالة الروائي حيدر حيدر ومن الأردن المناضل الطلابي والصحفي، ثم فيما بعد وزير الإعلام الأردني صالح القلاب. أما من لبنان فحدّث ولا حرج. ولنا أن نسأل في ذلك بشارة مرهج ومعن بشور وعشرات الأشخاص، الذين نكن لهم الحب والاحترام، من منظمة أمل، وحزب الله وآخرين.
تعمدت أن أذكر هؤلاء جميعاً بشخوصهم وأوطانهم، على سبيل المثال، لا الحصر، لأنني أردت أن أسجل في تاريخ "وفا"، بأنها كانت الرافعة الأعلى من بين مؤسسات الثورة الفلسطينية ومنظمة التحرير، إيماناً بقومية الثورة والكفاح المسلح، ولقد كان يمكن أن أمضي أبعد، لولا أن هذه مناسبة للتركيز على المفاصل، وليس علي التفاصيل.
وفي الحرب الأهلية اللبنانية، التي أريد لها عنواناً يشغل اللبنانيين ويذهب بهم بعيداً، فتكون المجابهة بين الفلسطينيين واللبنانيين، لعبت "وفا" دوراً مركزياً. لم تتوقف عن الانحياز للثورة، التي كان من الطبيعي أن تنحاز لها، ولكنها جاوزت ذلك إلى حدود الانخراط في شؤون الحركة الوطنية اللبنانية وشجونها.
لذلك اقتربت "وفا" من الوطنيين اللبنانيين، وحيث أنها كانت تزن دورها بميزان الذهب، فإنها لجأت إلى الحليف الوطني اللبناني، فأنفقت وقتاً وجهدا عاليا للعمل معه بهمة ونشاط، مثلما أنفقت جهداً أكبر للعمل من خلال الصحافة اللبنانية.
ولقد جاءت الفرصة مفاجئة، حين طلبت أرملة الصحفي المرحوم سهيل حموي موعداً للقاء مع المسؤولين في وكالة "وفا"، حيث أعلنت أن الوكالة التي يملك امتيازها زوجها تحت اسم وكالة الأنباء اللبنانية، لا يجب التفريط بها. وأنها وفاءً لذكرى مؤسسها الراحل سهيل حموي، لن تكون إلا وكالة وطنية وقومية ولا تخدم سوى الخط الثوري في أمتنا العربية!!
لقد دفعنا هذا التصريح إلى إطلاق فكرة أن تكون الوكالة اللبنانية، رافدا جديداً لوكالة "وفا". ولقد تم الاتفاق بأن تكون بمثابة الصوت الآخر أو غير المباشر لوكالتنا. وعلى الفور انتبه الأخ أبو عمار "ياسر عرفات" إلى أهمية الخطوة، فأعطانا صلاحيات كاملة في إدارة الشؤون المشتركة مع وكالة الأنباء اللبنانية. وهكذا أصبح صالح القلاب بقرار من قيادة "وفا" مديراً لتحرير الوكالة اللبنانية، وحيث أننا كنا نؤمن بأن المؤسسات الصحفية "البلّوشية " يعني التي هي "ببلاش"، لا تقدم ولا تؤخر، فأننا انتدبنا للعمل مع صالح القلاب، محمد رشيد، الذي كان اسمه الحركي خالد سلام، وهو من أكراد العراق، وكان شاباً صغيراً، وعلى وشك الزواج من فتاة مخيم فلسطينية، مصوّرة وصحفية تعرف إليها خلال العمل في جبهة النضال الفلسطيني. كان محمد رشيد أو خالد سلام، شاباً نشيطاً ومستعداً للعمل في ظل الظروف.
خدمت وكالة الأنباء اللبنانية القضية الفلسطينية بجدية وتفان جميل، واستطاعت الوصول الى صحف الخليج والتعاقد معها والكتابة لها بمقابل مادي، عن لبنان وعن القضية الفلسطينية.
غير أن وكالة وفا لم تقتصر على العمل من الباطن من خلال وكالة الأنباء اللبنانية، وإنما أرادت أن تقفز قفزة نوعية أخرى. كان همّ الوكالة الدخول إلى فلسطين الشعب والوطن، فسعينا بإخلاص إلى تحيّن الفرص لإنشاء قاعدة للوكالة في القدس.
النجاح قدَرٌ صعب، فما إن تبلغ نجاحاً حتى تحتاج قدرة وتجاوزاً، يُسلمك إلى نجاح جديد.
والقمة بعيدة المنال، ولكي تدركها فإنك تحتاج إلى جهد وعرق وأحياناً إلى بذل دم واجتراح إبداع وإعمال فكر وخيال. وأنت أمام منافسة هائلة، تلعب فيها تكنولوجيا المعلومات، يوماً بعد يوم دوراً لا تملك التقدم بدونه. وإذا كان الخبر هو الأساس، فإن ثمة مكونات أخرى أصبحت لا غنى عنها، تخدم منظومة الإعلام.
لذلك أدركنا مبكراً في هيئة التحرير أهمية الصورة. واعتقدنا في لحظات كثيرة أن الخبر المعزز بالصورة له شأن مختلف وقيمة أكبر ومصداقية أعلى وأوفر. مصداقية توثيقية تضعك في المقدمة وتكسبك نكهة تضيف الى رصيدك.
ولقد أنشأنا في وقت خاطف قسماً للتصوير الفوتوغرافي، في البداية كان القسم يتبع مؤسسة السينما الفلسطينية، لكن التصوير الفوتوغرافي والصحفي، تظل له متعته و وظيفته المجيدة.
وفي الحقيقة فإننا في "وفا" ولأسباب تتعلق بمنافسات مهنية، آثرنا عدم الذهاب بعيداً في تماهياتها، قمنا بالاعتماد على مؤسسة السينما. كنا نطلب منهم إيفاد مصورين إلى مكان الحدث، نبعث بهم ليلتقطوا ما يخدم الخبر ويعزز مصداقيته، لكن الأمر لم يكن ليستقيم طويلاً.
حيث رحنا شيئاً فشيئاً ننشئ قسم التصوير الصحفي الخاص بالوكالة. ظللنا ننفخ فيه ونطوره حتى أصبح بمضي الوقت مصدراً أساساً ليس في إثراء الخبر وتدعيمه بالصورة التي لا تكذب، وإنما دفعنا بهذا القسم بعد سنوات طويلة طويلة من الجهد والتخطيط وأعمال الفكر والخيال، إلى أن يصبح مؤسسة متكاملة، تمتلك أرشيفاً واسعاً يعد بمئات آلاف الصور. لقد منحت قيادة "وفا" لهذا القسم حرية وثقة، حيث كان يزود الصحافة المحلية وغيرها بصور أحداث، وصور أرشيف كذلك.
ولقد وصلنا لتلك الصور إلى حدّ أنها أصبحت مسجلة وموثقة الكترونياً. حدث ذلك في أواخر التسعينات في أعقاب اتصالات وعلاقات دؤوبة مع منظمة التربية والثقافة والعلوم "اليونسكو"، التي أمدتنا بكل ما ساعدنا على توثيق تاريخ حافل بالنضال والعطاء، بصور نادرة وأفلام وثائقية شكلت علاقة بارزة في مسيرة وكالة الأنباء الفلسطينية "وفا".