حكايات.... من ذاكرة مراسل لـ"وفا"
د. زياد أبو الهيجاء
أنهيت دراستي في كلية الصحافة في العاصمة الرومانية بوخارست عام 1981. وكان المنطقي أن أعود إلى الجهة التي أوفدتني "فلسطين الثورة"، ولكنني كنت بحاجة للبقاء في رومانيا سنة أخرى لمرافقة زوجتي التي تنهي دراستها في ذات الكلية، غادرت إلى بيروت ووجدت الحل عند القائد ماجد أبو شرار الذي قرر تعييني مراسلا لـ"وفا" في رومانيا، وقد عدت فعلا إلى بوخارست، ولكن القائد أبو سلام استشهد قبل استكمال إجراءات تعييني، وتحديدا الاعتماد المالي فكتبت إلى الأخ أبو عمار فوقع أمرا لمالية "فتح".
كانت الأهمية الفلسطينية لرومانيا تكمن في الزيارات المتكررة للأخ أبو عمار وقادة "فتح" وفصائل منظمة التحرير إليها وفي حركة وأفكار واتصالات الرئيس تشاوتيسكو من أجل تسوية سلمية، أما من الناحية المهنية فقد كانت الأخبار قليلة فعلا، ترسل عبر جهاز اللاسلكي أو عبر التلكس إلى مقر الوكالة في بيروت، وأقتطف اليوم من ذاكرة سنوات طويلة بعض ما رسخ في الذاكرة من حكايات.
التعاون مع وكالة "أجير برس":
بعد شهور قليلة من تعييني، في شتاء 1981، شهدت توقيع اتفاقية تعاون بين وكالة "وفا" ووكالة الأنباء الألمانية "اجير برس" بحضور الأخ أبو نضال إسماعيل من دمشق، بصفته نائب المدير العام لـ"وفا"، وكُتب لي أيضا أن أكون شاهدا على تجديد هذه الاتفاقية عام 2011. لكن هذه المرة كان مندوب "وفا" خالد درويش قادما من الوطن وليس من المنفى، وقبل أيام كنت في زيارة للأجير برس، فشكرت مديرها العام على حسن اختياره لمن يمثله في احتفالات "وفا" بذكراها الأربعين، وقلت للسيد روشكا: رئيس التحرير الذي سيغادر إلى رام الله مولود عام 1981 وهذا يحمل معنى خاصا لي.. ففي هذه الغرفة في ذات العام كنت شاهدا على توقيع أول اتفاقية للتعاون معكم.
وسمحت لنا هذه الاتفاقية بعلاج عدد من الصحفيين الذين أصيبوا في الحروب في مستشفيات رومانيا، وفتحت آفاق التعاون بين مختلف المؤسسات الإعلامية الفلسطينية ونظيراتها الرومانية، وشكلت العلاقة بين الوكالتين قناة أضافية للاتصال والتشاور مع منظمة التحرير، قناة لا تلفت النظر كثيرا، أما القناة المباشرة والرئيسية فكانت بين الرئيسين إذ كان الرئيس عرفات يزور رومانيا عدة مرات في السنة، وكان سفير رومانيا الحالي في رام الله د. مارين ألبو رجل الاتصال الأول وكان يعين سفيرا لرومانيا في البلد الذي يقرر فيه الرئيس أبو عمار الإقامة، فقد عمل هذا الدبلوماسي في بيروت وتونس وبغداد وغزة ورام الله وكان في استقبال الرئيس الفلسطيني عام 1982 في اليونان، بعد الخروج من بيروت.
ساهمت علاقتنا الجيدة مع "أجير برس"، في إقامة علاقة مع وكالة الأنباء المولدوفية، بالرغم من عدم وجود علاقات دبلوماسية بين فلسطين وجمهورية مولدوفا، وكلفني رئيس الوكالة رياض الحسن بتوقيع الاتفاقية نيابة عنه في السنة الماضية، وقد تم ذلك فعلا بدعم تام من مدير عام وكالة الأنباء الرومانية.
زيارة رومانية لبيروت:
في أيار 1982، أبلغني مدير عام وكالة الأنباء الرومانية برغبته في زيارة دمشق وبيروت على رأس وفد من الوكالة، وطلب تأمين مقابلة له مع القائد العام أبو عمار وتمت الزيارة في الشهر نفسه وحظي الوفد بترحيب فلسطيني مميز، وعلمت بعد سقوط نظام تشاوتشيسكو أن مهمة الوفد الحقيقية كانت قراءة التفكير الفلسطيني قبل الاجتياح الإسرائيلي للبنان والذي تم بعد شهر من تلك الزيارة، وحينها كنت أترجم بين الأخ أبو عمار والوفد الروماني، لفت نظري ترديده لعبارة لم أفهم أبعادها "سيكون هناك تغير في الجغرافيا السياسية"، وأذكر أنه كرر للوفد الروماني أن لديه معلومات أكيدة عن عدوان وشيك ستشنه إسرائيل بهدف تغيير الجغرافيا السياسية.
وأعطى شارون كلمة السر لشن هذه الحرب من مكان إقامته في بوخارست عبر الهاتف وكان في زيارة معلنة للعاصمة الرومانية ضمن خطة التمويه على القيادة الفلسطينية لكي يخفي موعد بدء الحرب، فلم يكن من المنطقي أن يشن العدوان وهو في عاصمة صديقة لياسر عرفات لكنها خدع الحرب.
بعد سقوط نظام تشاوتشيسكو.، كشفت الصحافة الرومانية عن أن أضخم ناقلة نفط رومانية وسعتها ثمانون ألف طن حملت قبل الحرب بنفط عربي ثم بدلت الأوراق في قبرص، وكانت الناقلة خلال الحرب تفرغ بعض حمولتها ليلا في مصفاة الزهراني التي احتلتها إسرائيل بداية الحرب، وتبتعد خلال النهار عن الشواطئ اللبنانية وكان قبطان تلك الناقلة العملاقة هو الرئيس الروماني الحالي.
عميل "وفا" في الخارجية الرومانية:
أوهمني موظف في القسم الصحفي في وزارة الخارجية الرومانية أنه عميل لي ووعد بتقديم بعض الوثائق السرية لقاء بعض السجائر والهدايا، وكان يطلب أن أدعوه إلى مطعم فاخر.. يجلس ثم يلتفت يمينا ويسارا ويخرج من جيبه ما كان يزعم أنه محضر اجتماع المكتب السياسي للحزب أو محضر لقاء الرئيس الروماني مع رئيس أخر، وكانت اللعبة ساذجة ولم يكن اكتشافها بحاجة لكثير من الذكاء، كانوا يريدون قناة توصل ما يرغبون بإيصاله للقيادة الفلسطينية بشكل غير رسمي ومضيت في اللعبة مصطنعا صفة المشغل لدبلوماسي روماني، والذي لم يكن في الواقع سوى ضابط مخابرات.
كانت العبارات تتكرر في محاضر الاجتماعات المزعومة ودائما كانت ترد على لسان تشاوتشيسكو عبارات الثناء والمديح للزعيم الفلسطيني، وكلام عن عزم رومانيا مواصلة دعم منظمة التحرير وإعجاب شديد بالسياسة الحكيمة لزعيمها، ولا أعرف حتى اليوم المقصود من عبارة وردت في أحد المحاضر الوهمية للمكتب السياسي للحزب الشيوعي الروماني، تقول: إن الرفيق ياسر عرفات ساعد بلادنا في تجنب أعمال إرهابية، وبالطبع كان المطلوب إيصال هذه الرسائل إلى الرئيس الفلسطيني ولكنني تجنبت ذلك لقناعتي بأن مايجري لعبة مدروسة يجب أن استمر فيها فقد أحصل مرة على ماهو أكثر فائدة من عبارات الإطراء برئيسي وهو ما حصل.
زيارة القذافي لرومانيا:
زار الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي عام 1983 رومانيا، ذهبت إلى المطار كمراسل لـ"وفا" وحين حطت طائرة العقيد هبط منها فتيات مسلحات وصوبن أسلحتهن نحو المستقبلين بمن فيهم تشاوتشيسكو، ورأيت وزير الداخلية الروماني يهرع نحو الطائرة ويجري حديثا مع سفير ليبيا ومع ليبيين آخرين نزلوا من الطائرة وبسرعة تغير وضع السلاح في أيادي حارسات القذافي لوضع آمن.
بعد الزيارة بأيام اتصل "عميلي". وقال إن لديه ما يستحق مائدة فاخرة فدعوته واتفقنا على موعد، بعد أن تلفت العميل المزعوم يمينا وشمالا وخلافا على عادته ناولني ما قال إنه ملخص ما دار بين القذافي وتشاوتشيسكو على مائدة العشاء مساء أمس. كانت هذه هي المرة الأولى التي شعرت فيها بأن موائدي لم تذهب هباء. القذافي يطلب من تشاوتشيسكو التوقف عن دعم منظمة التحرير التي يقودها ياسر عرفات، ويذكر عدد الفصائل المناوئة، ويتحدث عن الانشقاق في فتح ويسمي الدول التي تدعم الانشقاق، فيرد تشاوتشيسكو بأن المنظمة التي يقودها ياسر عرفات هي الأقرب للشرعية الدولية وأنه سيواصل العلاقة معها.
سارعت بإرسال ذلك مباشرة إلى القائد العام وللاطلاع اللجنة المركزية، وسرعان ما انتشر مضمون البرقية فقد قام الأخ القائد الشهيد أبو أياد بتعميمها على الجميع، لكشف خطورة وأبعاد مخطط الانشقاق.
لقاء فلسطيني – إسرائيلي:
في نوفمبر 1986، جرى لقاء علني فلسطيني –إسرائيلي موسع بين مثقفين من حركة السلام الإسرائيلية برئاسة لطيف دوري، وبين وفد فلسطيني برئاسة عبد الرزاق اليحيى وزير الداخلية السابق، بترتيب بين الأخ أبو عمار والرئيس تشاوتشيسكو والهدف منه تحدي قانون إسرائيلي أقره الكنيست يعاقب أي اسرائيلي يلتقي بعضو في منظمة التحرير، في حين كان الهدف الروماني أبعد من ذلك، وجرى اللقاء الأول أمام أعين الصحافة العالمية واقتصر على كلمة للأخ اليحيى وكلمة للطيف دوري، ثم مائدة عشاء رسمية أقامها مدير عام وكالة الأنباء الرومانية.
وأبلغ الوفد الفلسطيني الرومان برغبته في المغادرة مبكرا في اليوم التالي، وأصر على هذه الرغبة باعتبار أن المهمة قد تكللت بالنجاح، وتم التصدي علنا للقانون الاسرائيلي بمنع اللقاء مع منظمة التحرير، أصيب الجانب الروماني بالذعر وطلب مني وزير خارجية رومانيا حينها يون ستويان أن أترجم لرئيس الوفد الفلسطيني بأن الرئيس تشاوتشيسكو يرجوه بأن تعقد غدا صباحا جلسة محادثات مع الوفد الإسرائيلي ورفض اليحيى طلبه بشدة. وفي السابعة صباحا كنا في الحافلات في طريقنا إلى الطائرة التي ستأخذنا إلى بوخارست واستمعنا لنشرة أخبار إذاعة بوخارست في السابعة صباحا وكان الخبر الأول: تستأنف في هذه اللحظات الجلسة الثانية من جلسات الحوار الفلسطيني الإسرائيلي التي ترعاها رومانيا. وكانت إذاعة الخبر موجهة لتشاوتشيسكو الرجل الذي اعتاد بأن تنفذ رغباته وتوجيهاته حرفيا.
وحين وصلنا مطار بوخارست وجدت مدير الدائرة الصحفية في وزارة الخارجية الرومانية وقد اتجه نحوي مبتسما وهو يقول: كيف حالك يا سيد "وفا" هل أرسلت أخبارك؟ فأجبت بالنفي وقلت "سأرسلها بعد قليل فارتاحت قسماته"، وقال: نكون مدينين لك... وشاكرين لو ذكرت في الخبر أن اللقاء تم في جلستين لكي لا تبدو الأخبار متناقضة، فقلت "سأكتفي بترجمة البيان الصحفي الروماني الذي أصدرته أجير برس.... فهو لا يشير لعدد الجلسات ويتضمن جوهر ما جرى، فشكرني قائلا "المهم أن لا يرد في "وفا" أن اللقاء اقتصر على جلسة واحدة".
ولذلك البيان قصة، فقد استدعاني نائب مدير عام وكالة الأنباء الرومانية إلى مكتبه في الفندق حيث وجدت السيد لطيف دوري، وعلمت أنه تم أخذ رأيه في البيان الروماني وهو مرتاح، وقد فوجئت بتجاهل البيان لذكر القدس، فقلت: في كل النصوص الرومانية ترد عبارة الانسحاب التام من الأراضي الفلسطينية المحتلة بما فيها القدس الشرقية فلماذا اختفت هذه العبارة؟ هذا بيانكم وليس بيانا مشتركا وتصدى السيد دوري بروح المرحة وراح يتحدث معي بالعربية ومع المسؤول الروماني بالانجليزية محاولا بشيء من الفهلوة إبقاء البيان كما هو وحسم المسؤول الروماني الأمر في النهاية، وقال "لست مجبرا لأخذ موافقة أي منكما على بيان باسم بلادي، كنت فقط أود أن يكون الجميع راضين"، وصدر البيان بالعبارات الرومانية التقليدية والتي تتماشى تماما مع قرارات الشرعية الدولية.
الخبر الذي صاغه أبو عمار لـ"وفا":
في اكتوبر 1988، حضر الأخ أبو عمار على متن طائرة رومانية صغيرة إلى بوخارست قادما من برلين بعد مشاركته في احتفالات ألمانيا الديمقراطية في يومها الوطني، وبعد وصوله إلى مقر أقامته أشار لي بيده وقال "أكتب..التقى الأخ أبو عمار مساء اليوم في برلين بالرفيق رئيس الاتحاد السوفياتي غوربتشوف وقد تم بحث آخر تطورات القضية الفلسطينية، ووجه الرفيق غوربتشوف دعوة للأخ أبو عمار لزيارة موسكو إلى آخر الخبر. أعطاني خبرا جاهزا للنشر، وقال، "ابعثه فورا لـ"وفا"، وفي البهو سألني الأخ أحمد عبد الرحمن عن سبب استدعاء القائد العام لي فأطلعته على الخبر فقال لي أرسله كما هو وأسر لي: الحقيقة أنه لم يقابل غوربتشوف بل صافحه خلال حفل الاستقبال الذي أقامه الرئيس هونيكر.
كانت "وفا" للزعيم أبو عمار ميدانا آخر للتكتيك الذي برع فيه، ولجس النبض، ولاستقراء المواقف، ونافذة لنقل رسائله غير المباشرة.