زياد عبد الفتاح: أصدرنا بالإنجليزية حتى لا يتم تزويرنا أو تأويلنا (3)
تنشر "وفا" ما أنجزه الكاتب ورئيس الوكالة الأسبق زياد عبد الفتاح من كتابه الخاص بتجربته في "وفا"، بصفته الشاهد والقائد لهذه التجربة بحلوها ومرها من البدايات حتى العام 2005.
ونص عبد الفتاح الذي وصل "وفا" أجزاء منه سيتم نشره على عشر حلقات، وهذه الحلقة الثالثة:
قد أكون وأنا أقوم برواية شهادة حول تاريخ "وفا" أقدمت على حرق مراحل، كان سيأتي دورها في القص والسياق، لكنني أعتقد أن ذلك كان ضرورياً بالنسبة لي على الأقل.
إذ لابدّ وأنت تقوم بكتابة تاريخ حافل، أن تلجأ كثيراً إلى تثبيت مفاصل قد تفلت من الذاكرة، أو تتعرض للاغتيال إذا ما استبد بنا شَبَق الحكي، فتهرب منا ليست المفاصل وحدها وإنما التفاصيل.
وفي البدايات والنشوء أيضاً و أيضاً، لم يكن الخبر بلغتنا العربية العظيمة والجميلة، هو ما ينبغي أن ننقله، وبصياغة دقيقة لا تحتمل التأويل. وإنما كنا نخشى أن تنحرف الأخبار عن مسارها وبخاصة التعليق، الذي ربما يتعرض للتزوير أو التشويه بما يخرجه عن معانيه ومقتضياته. لذلك سارعنا في هيئة التحرير إلى إنشاء قسم في "وفا" لترجمة أهم الأخبار إلى اللغة الانجليزية، بل وإصدار نشرة خاصة أجنبية إلى جانب نشرة وفا الرئيسية. كانت اللغة الانجليزية هي الأساس، وأحياناً كنا نبث أخباراً باللغة الفرنسية. كان الهدف ألا يتم تزويرنا أو تأويلنا، وأن نصدر بما نصدر به، على أعلى قدر من الصدق والدقة.
كان الأمر صعباً، بل شاقاً فلم يكن من الممكن تدبير محررين على درجة عالية من الإلمام باللغة الانجليزية، فضلاً عن الاستخدام الرشيق والدقيق للمفردات والعبارات، التي تضع المقصود والهدف في سياقه المتقن والصحيح. ولقد حالفنا الحظ بأكثر وأعظم مما كنا نتوقع، حين تقدم لنا الدكتور رشيد الخالدي وزوجته السيدة منى تادرس باستعدادهما للعمل معنا.
كانا بسيطين وودودين، وعلى استعداد للعمل بدون شروط. ولقد فرحنا بهما كثيراً واحتفلنا بعمل، انكبا عليه بإخلاص وصدق نادرين. لقد رأيت أن علي واجباً و أن لهما حق أن أتوقف لا تذكرهما، وأذكر لهما أنهما لم يتبرما يوماً و لم يبديا طلبات ثقيلة أو غير ثقيلة.
ولقد لفت الأستاذ رشيد الخالدي، وأظنه في هذه اللحظات التي أكتب فيها يعمل أستاذاً متفرغاً في جامعة جورج تاون في الولايات المتحدة، ولكنني لا أعلم عن زوجته السيدة منى. أقول لفت نظرنا إلى المحرر السياسي، الذي كانت تصدره الوكالة، و كان بمثابة رأي أو موقف أو تحليل سياسي، اشتهر فيما بعد بأنه أصبح رأياً شبه رسمي للثورة ومنظمة التحرير الفلسطينية، وأنه غداً معتمداً ويعتمدّ به في الأوساط الصحفية.
وفي الحقيقة فإنني في هذا السياق تحديداً، أود التأكيد على أن رئيس المنظمة، ثم رئيس السـلطة فيمـا بعـد،كـان حميمـاً و متفهمـاً و أحـياناً كثيـرة مشـجعـا أو متواطئاً.
إذ أنني لم أتعرض يوماً إلى مساءلة أو اعتراض على ما كانت "وفا" تنشره من رأي أو محرر سياسي. وإذا كانت هناك ثمة ملاحظات فإنها كانت ملاحظات فيها من العتاب بأكثر مما كان فيها من اللوم. إنني هنا أسجل أنني الوحيد في كل تلك السنوات التي أعقبت البدايات، و حتى السلطة و حتى تقاعدي، الذي كان يكتب المحرر السياسي، وأنني أتحمل منفرداً مسؤولية المقالات التي كتبتها عبر عقود من السنوات، أي منذ عام 1972 و حتى عام 2006 وهــو العام الذي قام فيه وزير الإعلام باستصدار مرسـوم بكف يدي عـن العـمل فـي الوكــالة، و بتعيني مستشاراً لوزير الإعلام، وهي وظيفة لم أمارسها، ولم أقبل بها ولو يوماً واحداً. على كل حال كنت قد جاوزت سن التقاعد، فحق لي وعلي الذهاب إليه طواعيةً، ودون التوقف للحظة واحدة، أمام أحقاد أو تسديد حسابات، لم تشغلني من قبل.
على أن علي أن أعترف أن المحرر السياسي لم يكن ملكاً، و إن بدا إرثاً وتراثاً شخصياً، فلقد كان الأخ أبو عمار يطلب، نادراً، نادراً،التطرّق لمسائل بعينها، ولكن هذا لم يحدث كثيراً، مثلما ظل يعتقد البعض.
هل كان المحرر السياسي يؤسس لأدبيات سياسية سادت الخـط السياسـي الفلسطيني ؟ هنا تصعب الإجابة، وعلى الباحثين و المحللين الحكم في ذلك. فلا بدّ من قراءات معمقة للمحرر السياسي، تضعه في سياقه.
عندما يتعلق الأمر بالتاريخ فإن عليك ألا تزوّر أو تتجمل، وعليك أن تذهب بعيداً في تأكيد ظنك بأن التاريخ ليس ملكك، و إنما هو ملك هذا الشعب الفلسطيني المناضل البطل. لقد سردت هنا نتفاً من تاريخ اختلط فيه الشخصي بالعام. وعندما يحدث هذا وعلناً، فإن على من يملك المخالفة أن يتقدم، وله كـل الحب و الاحترام.
ثمة أكثر من مفارقة في تاريخ المحرر السياسي لوكالة وفا، أذكر منها ثلاثاً، واحدة منها في بيروت و الثانية فـي تونـس، و الأخيرة بعد الانتفاضة عام 2000في الوطن فلسطين. ففي بيروت أثار المحرر ضجيجاً ثار و لم يهدأ، حينما وجه النقد للمجلس الوطني الفلسطيني، ولفصائل المنظمة والثورة،متهماً إياها بأنها لم تسعَ يوماً إلى الوحدة الوطنية و لم تغلب القضية على مصالحها الضيقة و مكتسباتها الذاتية.
كان مقالاً عنيفاً دافع عنه كمال ناصر بضراوة و كمال عدوان ببسالة. على الرغم من أنهما لم يعلما به إلا بعد نشره.
أما الثاني فكـان فـي تـونس و حمـل تعريضاً بنظام عربي دسّ أنفه فـي الشـأن الداخلي لمنظمة التحرير الفلسطينية. لقد قام في ذلك الوقت أحد أعضاء اللجنة التنفيذية بالشكوى لرئيس اللجنة و المنظمة متهماً إياه بأن وراء المحرر ! ولقد استدعاني و كان غاضباً ، فيما علمت فى الجو الغاضب، الذي كان يملأ ردهات مكتبه، وحراسه ! لكني قبل أن امثل أمامه، كان قد قرأ المحرر السياسي، فتحول استدعائي برداً و سلاماً.
أما الثالثة فكانت في غزة بعد الانتفاضة عام 2000 و كان الرئيس ياسر عرفات ما يزال في المنتدى. في تلك الأثناء كتبت محرراً سياسياً أننا و الإسرائيليون دخلنـا في اتفاقية علينـا احـترامها، و أننـا منـذ تلك الاتفاقية ربمـا نلجـأ إلـى الانتفاضة، أمام هذا الإرهاب الإسرائيلي ولكن شرط أن تكون انتفاضة سلمية تتصاعد حتى العصيان المدني وكل أشكال الكفاح السلمي. يومها نشرت كل الإذاعات و الصحف و وكالات الأنباء المحرر بحذافيره، و كان للإعلام الإسرائيلي نصيب وافر في النشر معتبراً ذلك لغة جديدة في خطاب السلطة والمنظمة !
لم يكن ياسر عرفات قد علم بالمحرر السياسي عندما زرته في صباح اليوم التالي. سألني بعد أن علم هل تشاورت مع أحد قبل أن تكتب. أجبته بأنني لم أفعل،و لكنني قرأت كثيراً في الأوضاع الراهنة و المتغيرات، ووصلت إلى هذا الموقف المتوازن. لقد كنت يا أخ أبو عمار تقول بأننا لا نستطيع هزيمة إسرائيل عسكرياً أو إلقاءَها في البحر بحكم موازين القوة، و أن إسرائيل بالتالي لا تستطيع إلقاءنا بعد أن أصبح الوجود الفلسطيني بالثورة و المقاومة، حقيقية لا تستطيع قوة مسحه أو شطبه. لذا فإنه لا خيار لنا ولهم غير التعايش و السلام. أليس هذا ما تعتقده !
لم يعقب أبو عمار، وإنما سرح بنظره بعيداً و عميقاً في بحر غزة.
أردت بهذا القصّ والاستدراك والقفز فوق المراحل تثبيت مدى حرية الرأي التي كانت تسودنا، وأن ياسر عرفات، الذي كان يبدو تلخيصاً للحاكم المستبد، كان في الواقع قادراً على استيعاب الرأي الآخر، وإلا فكيف يمكن تفسير أن الثورة الفلسطينية عاشت بفصائلها المتعارضة متصالحة، على الرغم من أنها عاشت سنوات وسنوات، في مناخ خطر كنا نصفه كثيراً بغابة البنادق.