الاحتلال يشدد إجراءاته العسكرية على حواجز نابلس    لازاريني: الأونروا هي الوصي الأمين على هوية لاجئي فلسطين وتاريخهم    شهداء في قصف الاحتلال منازل مواطنين في مدينة غزة    3 شهداء و10 مصابين في قصف الاحتلال شقة غرب غزة    الاحتلال يأخذ قياسات 3 منازل في قباطية جنوب جنين    فتح منطقة الشهيد عز الدين القسام الأولى والثانية إقليم جنين تستنكر قتل خارجين على القانون مواطنة داخل المدينة    استشهاد اب وأطفاله الثلاثة في قصف الاحتلال مخيم النصيرات    الاحتلال يواصل عدوانه على مدينة ومخيم طولكرم    الاحتلال يشدد من إجراءاته العسكرية شمال الضفة    50 شكوى حول العالم ضد جنود الاحتلال لارتكابهم جرائم في قطاع غزة    دائرة مناهضة الأبارتهايد تشيد بقرار محكمة برازيلية يقضي بإيقاف جندي إسرائيلي    المجلس الوطني يحذر من عواقب تنفيذ الاحتلال قراره بحظر "الأونروا"    14 شهيدا في قصف الاحتلال مناطق عدة من قطاع غزة    16 شهيدا في قصف للاحتلال على وسط قطاع غزة    نادي الأسير: المخاطر على مصير الدكتور أبو صفية تتضاعف بعد نفي الاحتلال وجود سجل يثبت اعتقاله  

نادي الأسير: المخاطر على مصير الدكتور أبو صفية تتضاعف بعد نفي الاحتلال وجود سجل يثبت اعتقاله

الآن

زياد عبد الفتاح: المعركة تفرض نفسها رغم صعوبات العمل(7)

في الأيام التي تلت، بدا الأمر أكثر صعوبة. اشتداد القصف عرقل الكثير من آلية العمل. لم تجتمع هيئة التحرير بشكل منتظم طوال الأيام العشرة، التي تلت، لقد نقلنا الاجتماع منذ اليوم الأول لصدور الجريدة، إلى مقر التوزيع التابع لمركز الأبحاث في منطقة "كاركاس" المواجهة للبحر، واستمر العجز في المواد مدة هذه الأيام العشرة.
بدأنا نستكتب كل ما يقابلنا أو نقابله، كتب حلمي سالم الشاعر المصري الرقيق، وكتب الشاعر سمير عبد الباقي شاعر الزجل المستشيط بالثورة دائما وكتب الشاعر الغنائي الذي غنى له عدلي فخري أحلى أغاني الصمود زين العابدين فؤاد، لقد كان زين يتنقل بين الهلال الأحمر و"المعركة" وكتب عدلي فخري الفنان المصري المناضل. كان هؤلاء جميعاً ومعهم سليمان شفيق، وهو من المناضلين المصريين، يواظبون على الكتابة في المعركة. غطى أولئك الرجال إلى جانب الشاعر الفلسطيني معين بسيسو، والكاتب الروائي السوري حيدر حيدر كل النقص الذي تعرضت له "المعركة" في بداية أيامها.
هل كنا مخطئـيــن في تقديـرنـا، حيــن قلنــا إن "المعركة" سوف تستمر في الصدور، ولن تتوقف عند عشرة أو عشرين عدداً.بالتأكيد لم نكن مخطئين.بدأت الجريدة تفرض نفسها، وبدا انها تجربة ناجحة، فبدأت الكفاءات من كل الاتجاهات تصب منتظمة في "المعركة":الشاعر الكبير سعدي يوسف، والمقاتل الشاعر جليل حيدر العراقيين، وحنا مقبل الصحفي الفلسطيني البارز و أحمد أبو مطر سكرتير تحريرها الأول، الذي لم ينقطع عن الكتابة، حيث كان سكرتيراً،ثم مديراً للتحرير. ومحمود قدري الذي ساهم في إعداد شهادات قيمة مع المقاتلين وهيثم العاملي ابن الجنوب اللبناني الذي عمل بدأب في تصحيح الجريدة والكتابة إليها، إن صورة هذا المناضل الفذ لا يمكن أن تمحي من الذاكرة. بهذه الكفاءات وبهذه الطفرة التي عكست انتشار الجريدة، أصبح الانتقاء سمة من سمات هذه المطبوعة، التي أخذت تكبر مع تأجج الصمود.
الجنود المجهولون
قليلون حتى أولئك الذين ساهموا بالكتابة في جريدة "المعركة"وحتى في هيئة التحرير، كانوا  يعرفون بدقة العمل الخارق، الذي قام به جنود مجهولون لم تظهر أسماؤهم على صفحات الجريدة أثناء التنفيذ: الفنان عبد المنعم القصاص كان واحداً من هؤلاء الذين بدأوا مع الجريدة.كان يخرج الجريدة ويرسم "الماكيت"على ضوء مصباح الغاز، وبأدوات بدائية. و محمد المصري مساعد عبد المنعم القصاص لفترة فاقت العشرين عدداً، كان ينكب على التنفيذ حتى أخر الليل. كثيراً ما كان يواصل الليل بالنهار. وعدلي فخري المتعدد المواهب كان يساهم في التنفيذ أيضاً، بل انه في الأزمات، كان المنفّذ الوحيد الذي يساعد عبد المنعم. وكان عدلي يذهب معنا إلى الصف ويقوم بالتصحيح هناك، حتى يرفع عن كاهل عبد المنعم بعضا من عبئه.
وحاتم الشاب الفلسطيني الموزع الأساسي للجريدة، الذي كان ينتظر في السيارة أو ينام قريبا منا. يمضي معنا حتى صدور الجريدة، لينطلق بها فرحاً يوزعها في كل المواقع والأماكن، ثم يعود ليخلد إلى الراحة ساعات قليلة، لا يلبث بعدها أن يعود إلى كامل نشاطه.
"وأبو السعيد""احمد سعيد عيد"وحسن رمضان اللذين يرافقاننا ولا يهدأن، إلا بعد أن نذهب للراحة المتاحة بشكل نادر.لقد كان أبو السعيد يقوم دائماً بالمهمات الصعبة، وكان حسن معه. لم يطلب منهما شيء إلا نفذاه بدقة و حب.
من بيت معين بسيسو إلى بيت محمود درويش، إلى القدس برس، إلى السفير، إلى كاراكاس إلى "وفا" إلى العمليات المركزية، إلى المواقع في الاوزاعي والضاحية الجنوبية، وجبهة المطار والطيونة وميدان سباق الخليل والبريد إلى الأسواق التجارية، ثم إلى المطبعة "والصف"، لم يتوقف أي منهما ليتردد أو ليعلن انه تعب، أو انه بَرِم من أداء واجب ما، هؤلاء الأبطال الصامتون، هل يمكن أن ينسى دورهم أو يطمس.؟
لقد أنجزنا خمسة وعشرين عدداً في مطبعة النداء، وفي كل هذه الأعداد كانت القصة تتكرر في كل ليلة، عدم انتظام في المواعيد إقفال موعد الصف أو التصوير أو الطباعة، و معاناة جديدة.
وكنا أحياناً نلجأ إلى مطابع جريدة اللواء، نرجوهم أن يعوضوا "الصف" أو التصوير الذي فاتنا، ونعود إلى النداء لنطبع الجريدة في الصباح الباكر، وأحياناً كنا نصف في اللواء ونصور في مطبعة أخرى كان صاحبها يأتي عد الخامسة فيفتح المطبعة، يقوم بالتصوير أو يصور ويطبع، ثم يغلقها عند السابعة. كان دائماً متعجلاً، وحينما يقوم بالعمل يغلق علينا باب المطبعة، يعمل في سرية تامة. بعد فترة علمت انه كان مسيحياً مارونياً، وكان يخشاهم
كنـا ذات يـوم أبـو السعيـد وحسن رمضــان وعـدلي فخـري ومحمـد المصـري وأنـا، نفتش عن مطبعة. صادفنا أحد معارفنا. قال انه يعرف مطبعة حديثة ومتكاملة. هذا عنوانها، اذهبوا إلى صاحبها. نهضنا إلى العنوان من فورنا. وجدنا المطبعة مغلقة، سألنا من في الجوار فتطوعوا للنداء على صاحبها من العمارة المجاورة. مضت دقائق ثم فجأة دوى انفجار كبير قريب كما لو كان بيننا، أعقبه انهيار زجاج كثيف، كان حظنا عظيماً حيث كان أبو السعيد قد مرق قبل لحظات من المكان. ليست هي الصدفة الأولى ولن تكون الأخيرة صمتنا للحظات ثم عاودنا نشاطنا.
و..أخيــراً دخلنا إلى مطبـعة مواصـفـاتهـا كالحلم.  كانـت في منطقة ما بين اخر الحمراء و "رأس بيروت" أنظف مطبعة رأيتها في حياتي !مطلية بالأبيض والأزرق الفاتح في لون البحر الصافي، منظمة ومكيفة الهواء بفعل مولد ضخم يعمل بلا كلل ! أيتها العروس الحلم أين كنت كل هذا الوقت الطويل.. الطويل.
ومن أين هذه "الكافيتريا" الجميلة المشعة الممتلئة بالمشروبات الغازية الباردة وبالقهوة والشاي أيضاً !كل أداوات المطبعة حديثة، آلات الصف من أخر طراز والمطابع أيضاً، وبها مكان مدروس بدقة للإخراج والتنفيذ، وكل ما يبهج النفس. في البداية كنا نطبع خمسة ألاف عدداً يوميا تكلفنا ثلاثة ألاف ليرة لبنانية والورق أسمر.أردأ أنواع ورق الصحف في بيروت، وأصبحنا في المطبعة الحديثة نطبع سبعة ألاف عدد، بورق يزيد وزناً عن الورق السابق ولا يقاس به من حيث الجودة، ابيض ناصع البياض، وبألفين وخمسمائة ليرة فقط، أين كنا من هذا النعيم  ؟
بانتقالنا إلى المطبعة الجديدة منذ السادسة مساء يذهب عبد المنعم القصاص ومعه عدلي فخري وعز الدين المناصرة أحياناً، و أحمد أبو مطر وعماد حليم الفنان السوري، الذي انضم إلينا والذي دأب على العمل بصبر متوقد. كما انضم إلينا صلاح إبراهيم ذلك الشاب الصامت، الذي تابع بعد عبد المنعم القصاص إخراج الجريدة كان صلاح عندما يبتسم يضحك كل وجهه. قسماته الهادئة تفيض بحب نادر، كل الصفاء في وجهه رغم كل القصف والدمار. لم تكن يده تهتز أبداً في اشتداد القصف، خطوطه ثابتة وعمله دقيق ومتقن. أعرف صلاح منذ زمن طويل، لكنني لم أحبه كما أحببته أثناء عمله بيننا في "المعركة". المعركة فجّرت طاقات قهرتها الأنظمة الطاغية، وعندما كانت الفرصة للاختيار تفجّر الإبداع والألق.
هناك أشخاص سقطوا في امتحان الصمود منذ اللحظة الأولى، أشخاص أشبعونا "عنتريات"و"مرجلات" في الزمن العادي، وإذا بهم أثناء الحرب ليسوا حتى أشباه رجال، نفر قليل على أي حال. وهناك رجال متواضعون لم يدّعوا شيئاً في الزمن العادي، وفي أثناء الاستثناء كانوا أبطالاً وأيضاً لم يكونوا مدّعين.                      
كنا نجتمع يوماً في "كاراكاس" في هيئة تحرير "المعركة" وكان اجتماعنا يبدأ في الساعة الثانية عشرة ظهراً. انتظم معنا في اجتماعنا حيدر حيدر ذلك المناضل المتفجر انفعالاً وغضباً على خيانة الأنظمة وعلى الصمت العربي، وسميح سمارة الذي بدأ يكتب رغم انتقاداته، وصالح قلاب الذي عايشنا وتحمل عبئاً كبيراً معنا رغم عمله الليلي اليومي في صحيفة السفير. لقد كان صالح يمضي متنقلاً بين الفاكهاني والفردان والحمراء و"كاراكاس" وجريدة السفير.
وفي فجر يوم التقدم الإسرائيلي على المحاور في محاولة لجس نبض الصمود في بيروت. على الاوزاعي والطيونة والمتحف، غادرنا المطبعة عند الثالثة والنصف فجراً، ذهبت إلى صالح قلاب في الفردان، لم يكن في بيته، ذهبت إلى غرفة عمليات المدفعية كان صالح مع "ابورعد" واصفِ عريقات قائد المدفعية، ذلك النحيل ذو الأعصاب الفولاذية، كان أبو رعد يعطي أوامره بهدوء على التلفون، أو على جهاز اللاسلكي ثم يعود إلينا لنحتسي الشاي، لقد خرجنا بعدها صالح وأنا إلى حيث ينام شباب الإذاعة، كان هناك نبيل عمرو مسؤول الإذاعة وخالد مسمار المذيع والمفوض السياسي، وطاهر العدوان نائب مسئول الإذاعة وابن بيلا وأخرون.
وعندما أفاق الذين كانوا يقطفون ساعات ثمينة من النوم، في تلك الشقة الصغيرة في "ساقية الجنزير" وقد هدّهم الإرهاق، كانت راجمات الصواريخ الإسرائيلية بدأت تركيزها على المنطقة التي نحن فيها. طرّزت الراجمات على بعد لا يتجاوز أربعين متراً منا، بأربعين صاروخاً، بناية سكنية اشتعلت فيها الحرائق وشاع الموت والدمار. ورغم كل ذلك الجنون تحرك الشباب إلى الإذاعة التي كانت تبعد مئات الأمتار عن ذلك المكان مشياً، وسط القصف. وما كادوا يتهيأون ليبدأوا البث، حتى جاءهم، الأخ أبو إياد. نبت بغتة، وافتتح الإذاعة بخطاب موجه إلى جماهير بيروت الصامدة والى المقاتلين، كان الناس في بيروت بحاجة إلى الطمأنينة بعد ليل موت ودمار مروّع، فجاءهم صوت ذلك القائد، ليزرع الأمن في قلوبهم. الناس لم يناموا ليلتهم، الجحيم انفتحت بواباته منذ الثانية والربع ولا احد غير المقاتلين والقادة يعرف بأن الإسرائيليين بدأوا اقتحام بيروت  جاءهم صوت أبو إياد كالبلسم الشافي، وواصل الصمود مسيرته العظيمة نحو الأفاق الرحبة المشحونة بالحلم وبالتوهج.لقد فشل التقدم الاقتحام، ودفع العدو خسائر فادحة وانسحب.
هل نسيت أحداً، بالتأكيد نسيت أناساً كثيرين فاللحظة كانت مكثفة إلى الحد الذي تزاحمت فيه الأحداث والأشخاص والرؤى. هل أنسى، هل يمكن أن يُنسى حسين عباس ذلك الشاب المصري النحيل، الذي كان يتابع مواد المعركة، حسين عباس كان يلاحقنا، وكان يخبئ بعض المواد ليدق جرس الخطر في كل عدد من أعداد المعركة، وكان يأتيني مثلما كان يأتي العديد من الكتاب إلى "وفا" في "الطريق الجديدة" من منطقة الفاكهاني. يسألني إن كنت كتبت الافتتاحية و"بهلول".  كثيراً ما كنت لا أكتب إلا عندما يأتي حسين عباس، ففي زحام المهمات بين  "وفا"، بين العمليات المركزية والقيادة السياسية، وملاحقة الأوضاع الساخنة، كنا لا نجد الوقت الكافي لتنفس الصعداء. حتى عندما يكون هناك ما يمكن تسميته اصطلاحا بالصعداء، وكان حسين عباس يفهم بنظرة سريعة، إنني لم اكتب شيئاً، وكان يخجل أن يلّح فيطول انتظاره. ولكنه وفي مرات لاحقة أصبح يستأذن من حولي في مكتبي، ويغلق علي الباب وينتظر حتى افرغ من كتابة افتتاحية العدد و "بهلول" أيضاً وذات يوم فرغت فيه، وكانت نظارتي التي استعملها في الكتابة ما تزال على أرنبة انفي، مال علي حسين عباس يسألني هامساً وبهدوء شديد، إذا كنت مازلت بحاجة إلى نظارته، لم افهم للوهلة الأولى وعندما فهمت أخيراً انفجرت بالضحك، لقد كنت اكتب طيلة الوقت من خلال نظارة حسين عباس التي وجدتها على مكتبي وظننت أنها نظارتي.
أفرغت في لحظة نادرة، كل الصداع الذي لم اعترف به طوال الكتابة، و لقد ارتحت أكثر، لأنني وجدت سبب الصداع الذي تبخر على الفور. قلت لحسين مازحا (سكت علي حتى ينتقل إليّ بعض الحول الذي فيك) ضحك حسين عباس. كان ظريفاً ومرحاً وفي كل الظروف كان سريع البديهة، فَطِنا حتى الدهشة، وكان أيضاً وذلك هو الأهم قد تعلم بسرعة فن العمل الصحفي، وطاف في دهاليزه خلال اقل من خمسين عدداً من أعداد المعركة التي عمل بها. كما لا أنسى فارس غلوب، ولا أظن أن أحداً ينسى ذلك الرجل الذي قدره انه ابن أشهر ضابط بريطاني خدم الإمبراطورية البريطانية في المنطقة تولى إنشاء الجيش الأردني وقيادته، وضرب الحركات الوطنية الفلسطينية الأردنية، وساهم في إنشاء دولة إسرائيل. ولقد حاز بعدما عاد إلى وطنه على لقب "سير"
انضم فارس إلى أسرة "المعركة"، وقبلها كان انضم إلى جبهة التحرير الفلسطينية، وقبلها عمل في الإعلام الخارجي للثورة الفلسطينية. في كل الأحوال كان الرجل أمينا وشريفا، ورغم السنوات الطويلة التي كان يعمل فيها بيننا، فأن لعنة أبيه التي صبها علينا ظلت تلاحقه فينا، فترسم في أحيان كثيرة ظلال الشك حوله، وفي المعركة تبخر كل شيء. كان فارس جلوب يأتينا إلى الاجتماع في هيئة التحرير، وسط القصف، على دراجة نارية. وكان يطلب نصف لتر من البنزين، وعندما كنا نعطيه لتراً كان يبتهج كثيراً وطويلاً.
 وتفجرت الطاقات
في المفاصل الرئيسية، وفي معارك التاريخ الكبرى تتفجر طاقات كانت قبل الحرب كامنة.وحسيب الجاسم، ذلك الشاب الصامت الثوري العراقي الفنان، تفجر في الحرب خطوطاً حادة. كان حسيب يأتينا في كل ليلة بعد أن انتظمت الجريدة، لا ندري متى حل بيننا وكيف حل، منساباً رقيقاً هادئاً أتى، ولازمنا حتى أخر عدد من أعداد الجريدة على الرغم من أنه لم يعمل في "وفا" !
 وفي كل عدد كان يبدع رسماً كاركاتيرياً، مزيجاً من الرسم التشكيلي و"الكاريكاتير"، كنا نعرف حسيب من قبل، لم يبدع كما أبدع فى المعركة، كان بطلاً متألقاً ومتواضعاً فذاً، وعندما استطعنا الوصول إلى ناجي العلي أشهر رسامي الكريكاتير في طول الوطن العربي وعرضه "كان حسيب قد سبق ناجي، الذي حوصر في صيدا قبل بيروت واعتقله الإسرائيليون دون أن يعرفوه، وأفرجوا عنه"
قلنا لناجي.حسيب يرسم منذ فترة، أين تحب أن نضع الكاريكاتير الذي ترسمه ؟ قال : في أي مكان في الصفحة الأخيرة، أو الثانية لا فرق، بل أفضل أن أكون في الثانية، وليكن حسيب في الأخيرة تكريما له. في تلك الليلة طرحنا على حسيب نفس السؤال، قال : نضع ناجي على الصفحة الأخيرة، وأنا في الثانية. ما أجملهما وأعظمهما، ناجي العلي وحسيب الجاسم، والمجد لك أيتها الحرب الكاشف.
قبل حسيب وناجي، كان هناك شاب عراقي دقيق الجسم اسمر، كث الشاربين، اسمه عبد الرحيم الرمّاحي، كان يرسم للمعركة ويكتب المانشيت الرئيسي والعناوين الفرعية، عبد المنعم القصاص أتى به، كان دؤوباً ونشيطاً وذو مزاج خاص اكسبه نكهة خاصة، كنا نحبه ونكن له احتراماً كثيراً.                        
  هامساً قال عبد المنعم القصاص، عثرت على مكان استأجرته هو أمن، ولذا سوف ننتظم أكثر، قال عدلي فخري، ليس هناك من مكان أمن في بيروت الوطنية. الصدفة هي التي تقرر، لذا لا فائدة من التغيير قال عبد المنعم وعيناه تلتمعان لا تستقران خلف نظارته بقلق قال هامساً : هذا المكان يقع خلف السفارة الايطالية، وفي مقابل أضخم بناية في بيروت هي بناية "الاتوال"، وعن شماله تقع صحيفة النهار، والبنك المركزي اللبناني وهو أمام النهار ووزارة الإعلام، والإذاعة غير بعيدة، وبنك "نرودني موسكو" خلف الاتوال، وهذا كله يمنع استهداف العمارة الصغيرة التي اسكنها، قال احدنا مبتسماً بشدة : هذا كله لا يمنع، خصوصاً عمارة "نرودني موسكو بنك "!. لم يكن عبد المنعم، ولا نحن قد سمعنا عن القنبلة الفراغية، التي تجتثُّ بناية بأكملها، وتظل الشوارع من حولها نظيفة !
بعد ذلك بأيام قصفت البوارج الإسرائيلية مبنى جريدة النهار ومبنى وزارة الإعلام المركزي ونرودني بنك وقريباً من مبنى الإذاعة ودخلت قذيفة فسفورية في الشقة المجاورة تماماً لشقة العزيز عبد المنعم القصاص، والسفارة الايطالية، ولم ينج من القصف سوى مبنى الاتوال، لحسن الحظ أن عبد المنعم لم يكن في شقته، ففي فجر ذلك اليوم زاد جحيم القصف بشكل جعل عبد المنعم يترك الشقة، إلى الملجأ المقابل للبناية.

إقرأ أيضاً

الأكثر زيارة

Developed by MONGID | Software House جميع الحقوق محفوظة لـمفوضية العلاقات الوطنية © 2025