زياد عبد الفتاح: جريدة "المعركة" تتحدى الحصار (8)
في اجتماع هيئة التحرير الأول في مجلة الكرمل في الطابق السادس من بناية الجمال في الروشة، طرحت قضية كتابة الأسماء على المواد والمقالات والأشعار وغيرها، وكان هناك رأي يقول بأنه لا داعي لكتابة الأسماء وكان رأي غالبية الأخوة، أن كتابة الأسماء أمر ضروري، بل هو حيوي للغاية، واتخذنا قرارنا بكتابة الأسماء، وحينما كنا نهبط درج البناية بعد انتهاء اجتماعنا، سأل احدهم بخبث كيف نتصرف إزاء الأسماء الكبيرة والصغيرة ؟ قال أخر ألم نتفق أن تكون الأسماء أسفل المقالات وبنفس "البنط"، صغيرة تلك الأسماء كانت أم كبيرة ؟ كان ذلك على مسمع من معين بسيسو. بعد أيام فعلها معين ذهب إلى عبد المنعم القصاص سلمه قصيدة جديدة، وقال له هذه قصيدة، وفي الشعر عادة يكون الاسم فوق القصيدة. في اليوم التالي صدرت المعركة واسم معين دون باقي الأسماء فوق القصيدة التي كتبها، حينما جرى نقاش عبد المنعم حول الموضوع. قال عبد المنعم : معين أقنعني بوجهة نظره، قال عز الدين المناصرة : الشعر مثل النثر مثل كل شيء، نحن في معركة واتفقنا أن الأسماء تكون أسفل أي مادة، قلت في نفسي فعلها معين، لكنها لن تتكرر ثانية.
تحولنا في هيئة تحرير المعركة إلى أسرة حقيقية، كل الحساسيات، التي تشكلت عبر سنوات طويلة بسبب الانتماءات المختلفة، والرفض والقبول !! والتنافس والتناحر، وكل ما عدا ذلك مما يفجر الحساسيات، ذاب وتبخر، كنا نواجه المصير الواحد، هاماتنا جميعاً تحت المقصلة، المقاتل بطل، الصامد بطل، الذي يؤمن رغيف الخبز للصامدين والمقاتلين في حر القصف وحر الفرن وحر الصيف، والذي يؤمن الماء والمازوت والبنزين والغذاء والدواء والعلاج، كل واحد من هؤلاء بطل وأي بطل، لذا لم يكن هناك تحفّظ واحد تجاه أي شخص، لأي تنظيم انتمى ومن أى جهة أتى، ما دام يعمل في المعركة و"للمعركة"، يكتب ما يشاء دون حسيب او رقيب ما دام ذلك يصب في خط الصمود.
حنا مقبل (أبو ثائر) الصحفي الفلسطيني البارز،عندما بدأ يكتب للمعركة تقاريره الصحفية في الصفحة الأولي، أعطى لهذه الصفحة نكهة جديدة. لقد كان رقيقاً ومتواضعاً يقوم بما يكلف به بدقة متناهية وفي مواعيد ثابتة. لم يتخلف هو ورشاد أبو شاور واحمد أبو مطر الذين كانوا يأتون معا إلى اجتماعات المعركة، يوما واحداً. وكذلك كان الآخرون في هيئة التحرير مع استثناءات قليلة، كان اجتماعنا اليومي كما ذكرت عند الثانية عشرة ظهراً، وفي يوم اشتد فيه القصف قبل تلك الساعة حتى عطل المرور تماماً، وشلّ كل حركة، شهدنا في اجتماع التحرير كثافة لم نشهدها من قبل، تفحصّنا بعضنا بنظرات باسمة. لم نعلّق، كان الصمت أبلغ من كل كلام، كل واحد كان يخشى أن يلاحظ عليه الآخر تردده أو خوفه من القصف، ويعزو إليه عدم خروج الجريدة في اليوم التالي، وقلت في نفسي وقالها لي حنا مقبل بعد ذلك لقد نجحنا و"المعركة" كما قلت في أول اجتماع سوف تستمر. لن تتوقف عند العدد الثالث أو الرابع وها نحن نمضي نحو العدد العشرين وسوف نستمر إلى ما بعد الخمسين.
كانت المشكلة في العشرين عدداً الأولى مشكلة التصحيح، فقد كان علينا أن نحمل المواد إلى "الصف" ثم نعود بها بعد سحبها على أشرطة إلى عبد المنعم فنصحّحها ويقوم عبد المنعم بعمل "الماكيت" ثم نعود إلى مكان الصف لصف التصحيح، ونرجع إلي عبد المنعم لتثبيت الحروف أو الكلمات المصححة فوق "الماكيت"، لقد كان ذلك يقتضي جهداً إضافياً، عدا عن كونه يتطلب تنقلاً وسط كل الأخطار، ولقد ساعد عدلي فخري في حل المشكلة جزئياً، حين كان يذهب "بالماكيت" إلى "الصف" ويقوم بوضع التصحيح فوقه، لكن عدلي يذهب في الأمسيات الكثيرة ليغني للمقاتلين هو وزين العابدين فؤاد، ويعود متأخراً مما حرمنا هذه الميزة، ولقد حلّت هذه المشكلة تماماً عندما استبدلنا المطبعة بالمطبعة الأخرى " الكنز" أو السفينة التي عثرنا عليها، وتوفرت لها شروط للعمل المتكامل.
وإذا كانت هذه المشكلة قد حلت فأن عشرات المشاكل الأخرى قد بدأت، وكان علينا أن نواجهها، مشكلة التوزيع، التي أخذت تتفاقم بعد أن أوشك عنصر النفط على الاختفاء. ومشكلة التنقل وإحضار المواد مشكلة هي الأخرى، لا يحلها غير النفط من أين نأتي بالبنزين؟
في البداية كنا نحصل عليه من الأخ (أبو عمار) تارة ومن الأخ (أبو جهاد) تارة أخرى ومن الأخ (أبو الوليد) ثالثة، ومن الأخ (أبو موسى) تائب مدير العمليات المركزية، ثم بدأت قرارات التقنين تختصر من الكميات حتى طال التقنين سيارة توزيع جريدة المعركة وسيارات "وفا" باستثناء سيارة توزيع "وفا" وسيارتي اللتين اعتبرتا عسكريتين، ماذا نفعل ؟ واقتسمنا البنزين. لكن ذلك لم يكن حلا حيث أصبح الوضع يهدد بالتوقف للجميع كان في السوق بعض البنزين يباع في جالونات بلاستيكية بين قصف وقصف، نشطت السوق السوداء والبنزين بدأ يأتي عبر صفقات محدودة من المنطقة الشرقية.
ولم يكن لنا من خيار أخر، كنا نشتري في كل يوم صفيحة بنزين نتدبر أمر توزيع المعركة بها صباحاً، وأمر نقل المواد والكتاب الذين أوقفوا سيارتهم ظهرا، وأمر التنقل بين المطبعة والإخراج أو بين المطبعة و"وفا" أو الأماكن الأخرى التي نضطر إلى التعامل معها، لقد كنا نلاحظ في اجتماع هيئة تحرير المعركة و"وفا" أن الشهادات حول المعركة قليلة، فندعو إلى زيادتها ويقرر بعض أعضاء هيئة التحرير القيام بذلك، ولكن بعضهم كان يتوقف لحظة ليقول أريد سيارة مدة ساعتين، أو يقول أريد خمسة لترات من البنزين لسيارتي كي اذهب بها إلى المواقع، وكنا ننظر إلى بعضنا البعض عاجزين، حتى يقول احدهم أو بعضهم، حسناً سأذهب راجلاً إلى المواقع القريبة، أو يقول آخر إن القائد فلان ذاهب غدا وسوف أرافقه، أو يقول ثالث قائد جبهة المطار سوف يأتي عصر اليوم إلى العمليات المركزية وسوف أوافيه هناك، وهكذا كنا نحل مشكلة البنزين التي لم تكن تحل حتى بالنقود، فما أن تنزل إلى السوق بضع عشرات من الصفائح حتى تختفي في دقائق لقد كان عليك أن تدفع ولكن قبل ذلك عليك أيضاً أن تتربص بباعة البنزين في المكان والزمان، كما كان عليك أن تتأكد أن البنزين خال من الماء الذي قد يؤدي إلى إعطاب سيارتك في وقت لا يوجد فيه ورشات تصليح، وحتى لو وجد من يقوم على تصليح، فلن تجد في نفسك ولا في وقتك القدرة على ارتكاب مثل هذه الحماقات.
في أثناء صدور "المعركة" كانت تصدر يوميات أخرى، كانت تصدر أحياناً ودوماً انتظام الهدف (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين) والعودة (الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين) والرصيف لعلي فودة وبلسم للهلال الأحمر الفلسطيني بالإضافة إلى نشرات أخرى ليست يومية أو شبه يومية، لكن "المعركة" كانت أكثرها تميزاً، لم تكن "المعركة" لسان حال تنظيم أو جماعة أو حركة، كانت "المعركة" لسان حال الجميع، اجتمع لها وعليها الكتاب والصحفيون الفلسطينيون والعرب، وشارك فيها بشكل واسع ابرز الشعراء والكتاب والمثقفين والصحفيين من فلسطينيين وغير فلسطينيين، وبشكل خاص شارك المصريون والعراقيون بزّخم، وكان الشاعر العراقي الكبير سعدي يوسف والشاعر جليل حيدر يرفدان الجريدة بإنتاج متميز وغزير. كان سعدي يأتينا إلى هيئة التحرير أحيانا وكان جليل يأتينا لِماماً، لقد كان الاثنان يلبسان الزي العسكري وسلاح كل منهما على كتفه، وكل وراء المتراس يتأهب للدفاع عن بيروت. وعندما ينقطعان عنا، كانا يرسلان شعرهما أو مقالاتهما، أو يأتيان بها.
عندما بدأت مع بداية الخروج عملية جمع عشر نسخ من أعدادها لنقلها، لم نتمكن سوى من ثلاث نسخ، واحدة أودعناها الجامعة الأمريكية في بيروت لتكون في كل الاحتمالات موجودة، في مكان يحفظها بحكم وضعه الأكاديمي، والنسختان الأخريان واحدة حملها وفد نقابات المهن الفنية المصرية الذي جاءنا إلى بيروت الوطنية أثناء الحصار، تعبيراً عن تضامن لجنة المناصرة المصرية والشعب المصري مع الشعب الفلسطيني اللبناني الصامد، ولقد وجدت هذه النسخة في حرز أمين عندما زرت القاهرة بعد الحرب. أما النسخة الثالثة فقد حملتها معي إلى دمشق في أخر يوم للخروج
المعركة تتحدي الحصار
بعد شهرين من الحصار والحرب، والقتل والفتك اليومي، بدأ الأمل يتراجع كثيراً، المعطيات فوق الأرض التي نقف عليها، والمعطيات من حولنا، وحتى المعطيات في الدائرة الأوسع لم تكن تقود إلى بصيص من نور. بيروت الوطنية تال منها التعب والإرهاق والجوع، المواد التموينية بدأت تشح كثيراً، بعضها اختفى، وبعضها في طريقه إلى الاختفاء، والبعض الباقي لا يعين حتى المرضى والمرهقين الذين نال منهم التعب واشتد بهم الهزال، لا خضار ولا فواكه، والحل فقط في المعلبات، وان مضى عليها وقت تخزينها، وفي خبز توافر لكنه وحده لا يقيم أودا، وهو في مدى الحصار لا بد أن يشح. وحتى المادة الأساسية في صناعة الخبز بعد الدقيق، وهي المازوت، بدأت تعزّ بشكل منقطع النظير، ولقد أبدع الصامدون وسائل كثيرة وعظيمة من بينها الحصول على المازوت من بنايات بيروت، كل البنايات من الستينات حتى الثمانينات، كانت تعتمد نظام التدفئة على المازوت، ولكل شقة خزانها الممتلئ أو نصف الممتلئ أو خاوي الوفاض، ولقد ساهمت هذه الميزة في تسهيل الحصول على المازوت، الذي تشكلت له فرق خاصة كانت تتولى سحبه من الخزانات لتشغيل الأفران أو المولدات الكهربائية حيث تقضي الضرورة، والضرورة في أولوياتها كانت تشغيل رافعات الماء أسفل البنايات حتى خزاناتها فوق السطح، لينعم الناس بغسل إرهاقهم وتجديد نشاطهم، وليشربوا أولا وقبل كل شيء. ولقد أدى ذلك الوضع الشديد القسوة، إلى ضيق خطير ومخيف، وقع فيه الناس في بيروت الوطنية. والمقاتلون يحزنون أشد الحزن حينما يجري الحديث من قريب أو بعيد عن الخروج. كل مقاتل كان يحمل على كتفيه خارطة بيروت والوطن العربي. ويوما بعد يوم أصبح توقفه عند الموت، كمصير محتوم لصموده لا يكاد يذكر، تلاشى ذلك أو كاد، وأصبح همه أن تكون الأرض العربية عربية فعلا وان لا تدخل العصر الإسرائيلي، هل كان المقاتل يرى ما بعد بيروت وبعد الخروج على خريطة المنطقة ؟
هل كان يرى مصير لبنان، واستمرار احتلال جزء كبير منه، رغم سيناريو المفاوضات القائم، الذي لا يبتعد كثيراً عن سيناريو المفاوضات الساداتية الصهيونية الأمريكية، والتي أدت في أحسن الأحوال فيها إلى تكبيل مصر، والى عودتها إلى عهود السيطرة الاستعمارية الأمريكية والى النفوذ الإسرائيلي ؟
وهل كان المقاتل يرى وهو خلف متراسه في ذلك الخندق الضيق على هذه الجبهة أو تلك، ما لم يكن يراه أولئك الحكام في البلدان العربية الذين لم يستطيعوا تبين الخطر القادم على بلدانهم ؟
لقد كان المقاتل يعرف انه عندما يخرج من بيروت الوطنية فأن الانهيار والتراجع العربي سوف يتسارعان حتى نقطة الخطر التي تهدد المصير والوجود، ولذلك كان المقاتل يحزن، وقد يغضب كثيراً عندما تتردد أمامه نغمة الخروج، لكن ما عند المقاتل شيء، وما هوا على الأرض شيء آخر، فالناس الصامدون لم يضيقوا بالحصار وحده، وإنما بلعبة الموت اليومية التي تأكل صغارهم وأطفالهم، وقد تأكلهم هم. أو تأكل كل هؤلاء معاً. عانوا من التهديد في كل اللحظات، ومن التدمير النفسي والمعنوي، الذي يتعرضون له ساعات نهارهم ولياليهم، حرب منشورات وحرب شائعات وحرب سيارات مفخخة وحرب قصف للبنايات التي قد يرتادها أو يمر بها أبو عمار، أو احد القادة البارزين، فضلاً عن حرب الصمت العربي !!