تجربة مركز التوثيق في شهادة زياد عبد الفتاح (الحلقة الأخيرة)
إنني في هذا الفصل من الشهادة، أو القص التاريخي والذي قد تعُوزه الوثائق، ولا يقلل من شأنه النشيد الشفوي، الذي يعتمد عليه مفجرو التجربة، الذين قُدّر لهم خوضها، أمضي إلى محور آخر في سيرة هذه الوكالة الباذخة في تجربتها وأدائها.
إذْا ثمة أدوار أخرى، انكبت عليها قيادة الوكالة بهمة ونشاط. وعلى الرغم من أن الخبر الفلسطيني والنضال البطولي للمقاتلين والفدائيين وكل من انتمى إلى فتح وفصائل منظمة التحرير كافة، كان يحمل أداء الوكالة ويرفع من نبض التجربة. إلا أننا في القيادة كانت لنا عيون على اللحاق بالتطور الذي يحيط بنا، أو نشاهده في رحلاتنا عبر عواصم العالم. لقد قمنا بمحاولات حثيثة لاستخدام تقنيات متقدمة بمفهوم ذلك الزمان، فاستخدمنا التكرز والتِلكس، وأجهزة الهاتف اللاسلكية، وكدنا نلحق بالفاكس قبل نهاية الرحلة في لبنان، ففاجأنا الغزو الذي أتى على الوكالة معدات وتقنيات وأجهزة مختلفة، بما في ذلك المايكروفلم والمايكروفيش، التي كنا راهنا من خلالها على توثيق تاريخ هذه الثورة العملاقة التي انطلقت عام 1965.
وكنا في مخططنا الذي وضعناه في ذلك الوقت، بالاتفاق مع مدير مركز التوثيق الفلسطيني التابع لوكالة الأنباء الفلسطينية "وفا" الدكتور والصديق أحمد أبو مطر، أن نسير على خطين. خط يبدأ من آخر الأحداث والمستجدات. وخط آخر يرجع شيئاً فشيئاً، لتوثيق ما قد يكون أفلت، أو كان متناثراً هنا أو هناك، في هذا البلد أو ذاك.
لقد عمل أعضاء مركز التوثيق مسؤولين وعاملين بنشاط ودأب وفق الخطة، واستطاعوا خلال ما يقرب من عامين، انجاز توثيق تاريخي للوقائع والأحداث الفلسطينية، التي كان لابد أن نقتحمها، غوصاً في تاريخ لا نريد له أن يُطمس أو يُنسى.
ولسوف أذكر بالتأكيد جابر سليمان وصبحي طه بكثير من الاعتزاز، كنت أعرفهما لماماً. وذات يوم ذهبت إلى الأخ أبو عمار في مكتبه، كان ذلك عام 1980 فيما أظن، وصادفت لديه رئيس مركز التخطيط الفلسطيني يشكو له جابر سليمان، وصبحي طه، يرجوه أن يعفيه من وجودهما في المركز.
قال الأخ أبو عمار: أين أذهب بهما، وهما يثيران من المشاكل، ما لا قِبَل لك بحلها، وأنت الحكيم. فكيف يحلها غيرك ؟
أجاب: أرجوك يا أخ أبو عمار، فلم أعد أحتمل وجودهما.
تدخلت فجأة. لمعت في خاطري فكرة أن نعمل معاً. قلت: حوّلهما لي.
قال أبو عمار ساخراً :
- هل تستطيع ما لم يستطعه الدكتور !
قلت: "لا تقلق"، كل الأمور سوف تكون على ما يرام.
قال: هل تملك ترويضهما.
قلت: لا ترويض ولا يحزنون. هذان شابان مجتهدان، و يريدان عملاً يتفق مع قدراتهما الذهنية. فحوّلهما لي. بصراحة أنا بحاجة لهما في مركز التوثيق.
قال: على بركة الله. و كتب قراراً بنقلهما إلى المركز.
أردت أن أسرد هذه الواقعة، لأنني أعتقد بأنني كسبت رهاناً جميلاً، فلقد صنعا فوق ما عقدنا عليهما من رهان. كل ما فعلته أنني أطلقت لهما الحرية في العمل، ولم أتصرف معهما على نحو بيروقراطي، ولم أتدخل إلا نادراً. أساساً هما كانا يقومان بعرض ما عليهما أخذ الرأي فيه أو القرار، وكنت أزيدهما حرية و ثقة.
كما أنني أسرد هذه الواقعة أيضاً، لأنني بتواضعي المتأصل في داخلي، شجّعت الآخرين على انتحال ما ليس لهم، أو أنهم كانوا ينسبون الفضل لغير أهله، ويتجاهلون ما هو في الأساس تاريخي الشخصي. ربما لم أكن لأهتم لو أن الأمور ظلت عند شهادات أمينة وبريئة، لكن لأن بعض الشهادات بدت مستفزة فإنني أتنطح لتصحيح مسارات أظن أنني الأجدر بتصحيحها.
ولعلني هنا في هذه الشهادة التي أدلي بها عن "وفا" رأيت في عام 2006 و قبيل تقاعدي بوقت قصير، أن أنبه إلى أن إلحاق وكالة "وفا"، و الإذاعة و التلفزيون بالسلطة الوطنية، بدلاً من منظمة التحرير الفلسطينية، كان خطأ أو خطيئة.
أظن أنني، إذا لم تخنّي الذاكرة، نبهت صديقي رياض الحسن، الذي كان نائبي في الهيئة العامة للاستعلامات، و أظنه في حينها، وافقني في ذلك.
ولقد كتبت ذلك في رسالة موجهة إلى وزير الإعلام، و في ظني أنه لن يبقى وزيراً، سوى لبضعة شهور، وقد صارحته بذلك بوضوح و شفافية، غير أنه كان قد قرر أن يركب رأسه ! كنت أقرأ في المتغيرات، و كنت أرى أن علينا أن نتمسك بمنظمة التحرير الفلسطينية، باعتبارها مرجعية كل الاتفاقيات وإذا كانت السلطة الوطنية في متناول الغدر الإسرائيلي، فأن المنظمة ليست كذلك !
ولم يلتفت إلى رأيي إلا بعد عام من ذلك التاريخ، قام فيه الرئيس أبو مازن، وأظنه لم يقرأ رأيي أساساً، بإعادة ربط "وفا" و الهيئة العامة للاستعلامات والإذاعة و التليفزيون بالمنظمة.
أعود إلى مركز التوثيق الفلسطيني، الذي قررنا في قيادة "وفا" أن تصدر عنه جريدة رسمية، سميناها الوقائع الفلسطينية. وهي جريدة خططنا أن توثق وتسجل الأحداث واليوميات والوقائع والقرارات، وكل ما يتعلق بالشأن الفلسطيني في الداخل والخارج، وفي منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها الرسمية، وعلى صعيد الفصائل، وحتى ما يجري من حراك فلسطيني في الوطن والشتات و المخيمات
لقد صدر عدد واحد فقط، من هذه المجلة، التي شاءت لها الأقدار ألا تمضي إلى غايتها، حيث داهمتنا مقدمات الحرب الاجتياح الإسرائيلي والحصار.
وفي بدايات الخروج من بيروت، والذي قررت فيه القيادة الفلسطينية، ألا نخرج سوى بحاجاتنا الأساسية والضرورية، وبما لا يزيد عن حقيبة واحدة، اتصلت بالصديق جورج حاوي، ومعن بشور وآخرين، أوكلت لهم مهمة التصرف بمركز التوثيق. كنت أريد أن تستفيد القوى الوطنية اللبنانية من هذا الإنجاز الذي حققناه ليبنوا عليه فنحن في خندق واحد. والثورة الفلسطينية للوطنيين اللبنانيين مثلما للفلسطينيين.
كلفت جابر سليمان مدير عام المركز الذي خلف الدكتور أحمد أبو مطر، بإيداع نسخة من لفائف المايكروفلم ورقائق المايكروفيش، لدى سفارة ألمانيا الديمقراطية. للاحتفاظ بها ثم تسليمها لسفارتنا في برلين في الوقت المناسب، وكنت قد استبقت ذلك بزيارة للسفارة سألت المسؤولين فيها المعونة، فوافقوا على ذلك.
وفي الحقيقة، فإن فكرة مركز للتوثيق الفلسطيني أثناء زيارة لي لوكالة (ADN)، التي كان يرئسها عضو في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الحاكم في ألمانيا الديمقراطية، نشأت بيننا علاقة ود وصداقة. وفيما كنا ندور في أقسامها لإطلاعي على أنشطة الوكالة و تطورها في توثيق الأخبار والمعلومات، من المايكروفلم إلى المايكروفيش.
سألته فجأة هل هي صناعتكم ؟
قال: هي صناعة ألمانية على كل حال. لماذا تسأل !
قلت: لأننا بحاجة إلى مثل هذه المعدات.
لم يعقب في حينها، و لكنه أبلغني وهو يصطحبني إلى المطار. بأنهم في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الألماني، قرروا مساعدة "وفا" بأجهزة المايكروفلم، ثم بأجهزة المايكروفيش، و أن علينا أن نرسل من يتدرب على استخدام تلك المعدات لدى الوكالة الألمانية.
وعندما عدت إلى بيروت، زارني بعد أيام مراسل الوكالة الألمانية، وأبلغني أنهم سيشحنون الآلات على طائراتهم، وسيأتي معها مهندسان يقومان على تركيبها، وتدريب فنيين من "وفا" على صيانتها.
ما أن وصلت الآلات حتى كان هناك وفد من مركز التوثيق يزور برلين، ليكتسب خبرة أعلى في مجال التوثيق. أول ماكنات وصلتنا كانت للتصوير بنظام المايكروفلم، وكان ذلك النظام قد أصبح قديما ومكلفاً حيث حل محله العمل بآلات أكثر تطوراً هي آلات التصوير على الرقائق، والتي كانت أقل كلفة ووزناً وأشغالا للمكان.
لم تكن الخطوة استعراضية، بقدر ما كانت تتعلق بحاجتنا إلى توثيق أخبار "وفا" في الدرجة الأولى، ثم ليكون المركز مرجعيتنا في التقاط خلفيات تعزز من صدقية الخبر الفلسطيني.
ولقد استقرت أفكار قيادة الوكالة، في ذلك الحين، على تخصيص مكان مختلف للمركز يتماهى مع وظيفته، وان يكون له كادره المهني المستقبل، على أن يتبع القيادة سياسياً وإدارياً.
اشتغل المركز بكامل طاقته منذ الأسابيع الأولى لوصول المعدات الفنية، وبدا أنه سوف يصبح مرجعاً، ليس لوكالة الأنباء الفلسطينية وحدها، وإنما لكافة أجهزة الإعلام الموحد الفلسطيني، وكل إعلام آخر يهمه التزود بوثائق تتعلق بالشأن الفلسطيني.
بل انه كان مقدراً له أن يصبح خزانة وثائقية كبرى، يفيد منها المدنيون والعسكريون، ومراكز الدراسات والبحوث.
والصحافة الفلسطينية والعربية وحتى العالمية. كان مركز التوثيق حلماً أصبح بمرور الوقت حقيقة واقعة. لو ظل هذا الحلم قائماً منذ ذلك الوقت في عام1982، كنا قدمنا ما سوف يمضي خالداً في تاريخ "وفا "،وكنا ربطناه بالمتغيرات الهائلة، التي طرأت على تقنيات الاتصال والاسترجاع. لقد شاءت الأقدار، وإرادة التدمير الإسرائيلية، التي جعلت من تدمير الفلسطيني منهجاً، وبالتالي طمسهم أو محوهم ومسح تاريخهم، أن ينتهي مركز التوثيق الفلسطيني نهاية مأساوية، عندما اقتحم الجيش الإسرائيلي بيروت بعد خروجنا. وحمل معه كل ما بناه مركز الأبحاث الفلسطيني عبر السنين، وأظنه حمل الكثير غيره، وقد يكون ضمن ذلك وثائق وأدوات مركز التوثيق.
وفي الحقيقة، فإنني أردت بهذا السرد المتمادي، التوقف للإجابة على أسئلة لا يستقيم السرد بدون توضيحها. ولعل علي أن أجمل الأسئلة بسؤال واحد مميز وضروري. ما هي المهمات التي انشغلت بها الوكالة، ولماذا، وهل كان من الضروري أن توسع من نشاطها فيصبح متعدداً، بما قد يشوش اختصاصها أو مهامها الرئيسية في التعامل مع الخبر والمعلومة. والرأي والتحليل ؟
أطرح هذا السؤال الأسئلة، لا لكي أجيب عنها. ولكن ربما لأشرح الظروف التي عاينتها الوكالة في الزمان والمكان والشخوص.
وإذا كان لا بد من الغوص بعمق، فإنني أجنح إلى الاعتقاد بأننا لم نكن وكالة أنباء بالمعنى العلمي أو الأكاديمي في أي وقت من الأوقات.
امام مثل هذا الاعتقاد، يصبح الحديث عن مهمات مختلفة ومعقدة، وخطرة أحياناً، ضرورياً ويوضح الموقف.
فالوكالة التي كانت تطل على شارع الفاكهاني الرئيس، أو شارع جامعة بيروت العربية، كانت تقع أسفل ذلك الشارع. لا تفصلها أبنية عن " دوار الكولا " الذي كان يمثل تقاطعاً فوقه جسر علوي، يكشفنا في كل وقت. لذا فان واحدة من المهمات، التي واجهتنا في وقت مبكر، كيفي نحمي أنفسنا ونؤمن أمننا.