الطفل مازن .. حلق كفراشة ورحل في عز البراءة
قبل رحيله الفاجع بثلاثة اسابيع ، كان الطفل مازن غسان فريتخ ابن السابعة مستسلما في حضن والدته بعدما اصيب بارتفاع مفاجىء في درجة حرارة جسمه.
هناك في حضن والدته التي كانت تسهر على رعايته وتبتهل للخالق ان يحمي طفلها كي يعود لسابق عهده مشاكسا وعنيدا وممتلئا بالبراءة والفرح والضحكات، كان مازن يتمتم بكلمات بدت لامه في حينه علامة على اعراض الحمى التي كانت تستولي على جسده الطري، غير ان تلك الكلمات بدت بعد رحيله نبوءة احسها مازن بقلب الفراشة الذي يسكن صدره.
في تلك الليلة التي عاني فيها مازن من الحمى ، قال لامه بصوت خافت أنهكه المرض : "اشعر ان شيئا ما يحملني الى أعلى وبأنني أطير وأطير وأطير".
بعد ثلاثة اسابيع بالتمام والكمال ، حلق مازن كفراشة ورحل .. طار الى حيث الملائكة ، وصعد الى السموات العلى محملا بكل ما فيه من براءة وطفولة واحلام وامنيات تاركا وراءه والدة مفجوعة وابا مكلوما واشقاء لم يسعفهم الموت الصاعق من تأمل شقيقهم الصغير وهو يكبر بينهم على وقع تلك القهقهات التي كانت تملأ البيت ساعة اللعب في ساحة الدار.
قضى مازن صبيحة يوم السبت الماضي اثر سقوطه من الطابق الثالث في شقة تعود لعائلته في شارع المريج بمدينة نابلس وهي شقة غير مأهولة كان يستخدمها شقيقه مروان لاغراض الدراسة استعدادا للتقدم لامتحانات الثانويه العامة (التوجيهي).
ويقول بشار فريتخ، عم الطفل مازن، ان الشقة التي سقط منها ابن شقيقه غير مأهولة وكان شقيق مازن الاكبر مروان وهو طالب في الثانوية العامة يستخدمها للدراسة برفقة صديق له، بينما تسكن عائلته في الطابق الاخير (الروف) من البناية ذاتها.
واوضح "ان مازن دخل الشقة بعد ان توجه شقيقه مروان لتقديم اول امتحانات الثانوية العامة، وقام بوضع مجموعة من الوسائد فوق بعضها البعض وصعد عليها لالقاء نظرة من النافذة، وكانت النتيجة ان سقط من النافذة التي لم يكن عليها أي نوع من الحماية، نظرا لان الشقة غير مسكونة".
وقال" القدر هو الذي ساق مازن الى حتفه، فالشقة (الروف) التي تسكنها عائلته محاطة بحماية حديدية من كل الجهات ويزيد ارتفاعها على مترين ، ولكنها مشيئة الله التي لا راد لها".
احد المارة في شارع المريج غرب المدينة، تصادف مروره بالقرب من البناية التي شهدت الفاجعة ، شاهد في ساحة طابق التسوية جثة طفل غارقة وسط بركة من الدماء فسارع الى ابلاغ سكان البناية الذين قاموا على الفور بالاتصال بالدفاع المدني والشرطة والذين هرعوا بدورهم الى المكان وقاموا بفتح باب الشقة السفلية والوصول الى حيث سقط مازن.
ويقول العم بشار: "عند وصولهم الى المكان كان قد مضى على وقوع الحادثة نحو نصف ساعة، وكان مازن في الرمق الاخير بعد ان نزف كثيرا .. توجهوا به الى المستشفى لكنه توفي بعد دقائق من وصوله الى هناك".
مازن هو الخامس بين ستة من الاخوة والاخوات الذين لن يكون في وسعهم حتى أمد طويل التحديق في ألعاب مازن المنثورة في اركان وزوايا البيت الحزين، ولن يكون في وسعهم النظر الى تلك الوسادة التي كانت تشارك مازن نومه العميق والدافىء ، غير انهم سيضحكون كثيرا عندما تستدعي الذاكرة بعضا من مشاكساته وبعضا من حيله الطريفة لاقناعهم بالسطو على علبة الحلوى المخبأة بعناية أم تخشى على اسنان طفلها الصغير من أفة السوس.
وبصوت مخنوق بالعبرات ، تقول الام المكلومة "ام مروان" : "حتى اللحظة لا اعرف كيف خرج مازن من البيت في ذلك اليوم، كنت منشغلة بالدعاء لابني مروان بان يوفقه الله في الامتحان، وما هي الا دقائق حتى فوجئت بالخبر الكارثة".
وتضيف "ام مروان": "عندما وصلنا الى مازن وجدناه ممددا على الارض في وضع يشبه وضعية النائم، وكان يضع يديه تحت رأسه".
وقالت والدموع تنهمر من عينيها : "مازن كان طفلا ذكيا، جميلا، بشوش الوجه، وكان محبوبا من كل افراد العائلة، وكان متفوقا في مدرسته وواثق من نفسه".
فاجعة رحيل الطفل مازن، أعادت فتح جرح قديم عمره تسع سنوات في قلب عائلة فريتخ ، فالطفل مازن حمل هذا الاسم تيمنا بأسم عمه الشهيد مازن فريتخ ، احد قادة كتائب شهداء الاقصى التابعة لحركة "فتح" والذي قضى خلال اشتباك مسلح مع قوات الاحتلال في نابلس يوم الخامس عشر من نيسان عام 2003.
ويقول عمه بشار فريتخ :"بعد استشهاد شقيقنا مازن، قررت اطلاق اسم مازن على اول ابن ارزق به، وكذلك فعل شقيقي غسان.. اردنا ان يبقى اسم شقيقنا مازن حيا في بيوتنا بعد ان حرمنا الاحتلال منه".
ويضيف بشار: "كنت اعتبر ابن اخي "مازن" مثل ابني، خاصة وانه من جيل ابني مازن".
وعن الايام الاخيرة في حياة مازن الطفل ، يقول عمه بشار: "قبل ايام أنهى مازن الصف الاول في مدرسة طلائع الامل بتقدير ممتاز، وفي يوم الجمعة، اي قبل الحادثة بيوم، اصطحبه احد الجيران برفقة عدد من اطفال الحي في رحلة ترفيهية الى منتجع حياة نابلس، وهناك امضى مازن يوما ممتعا مع رفاقه .. كان ممتلئا بالحياة والفرح".
رحيل مازن بهذا الشكل الفاجع ، وقع على شقيقه مروان الذي يتقدم لامتحانات الثانوية العامة كالصاعقة، فيما تبذل العائلة رغم الحزن الذي يخيم عليها محاولات لا تنقطع لاخراج مروان من عتمة الحزن الذي غرق به املا في ان يشكل نجاحه في "التوجيهي" مناسبة لادخال الفرحة الى البيت من جديد ومدخلا لاستذكار مازن في لحظة سعادة تغمر البيت الذي يشتاق للفرح الجميل.