نسخة عقد الزواج التي طارت من بيرزيت إلى عمان- صالح مشارقة
انكسرت حشمة المأذون بالكامل، أمامنا نحن الخمسة الواقفين في غرفة المحكمة الشرعية في بيرزيت. كان منظرنا بالنسبة لعامل الشاي والقهوة كإخوة صارمين جاءوا يسجلون إرثا او عقارا في البداية لكنه تحفز لحبات الشكولاتة عندما شاهدنا ندخل الى غرفة المأذون الشرعي. فانهار أمله بسرعة عندما لمح المأذون مرتبكا ومتسرعا لانجاز معاملتنا، ليصرخ: «إللي بعدو».
كان ذلك في العام 2005، وربما نم المأذون والبواب والمراجعون في المحكمة علينا وقالوا: خمسة فلاحين عابسين... او خمسة لاجئين لا يكوون ملابسهم ولا يتعطرون.
قرأ المأذون الشاب آيات قرآنية جميلة وقدم حديثا نبويا مفرحا ليكسر تماثيل الجليد الخمسة المتحلقة على مكتبه وسأل بفرح وتأمل ولعلع وهو يسأل: اين العريس.. الاسم والعمر والمهنة؟
قلنا: العريس أسير، نزار سمير شحادة التميمي.. محكوم بالسجن مدى الحياة.
كانت البلد آنذاك مشبعة بالكآبة الوطنية، وكانت الصحف اليومية تكتب مانشيتاتها بأرقام متعارضة عن تسعة او عشرة او احد عشر ألف أسير في السجن.
سكت المأذون الشاب وسكن أيضا، وجاملنا بعبارة سريعة بعد صمت: «الله يفك أسره». وعاد يسأل: أين العروس؟
فقال احد التماثيل الخمسة: أسيرة، أحلام التميمي، محكومة 16 مؤبدا... « وشوية أشهر».
فجأة زادت المسافة بين قلم المأذون وورقة عقد الزواج، وتقصفت حواجبه وملامح وجهه وتواضعت عائلات العرسان والعرائس المنتظرون على الدور، وصمتت بلدة بيرزيت وغاب شغب الطلاب والطالبات في الجامعة المجاورة واختفت أصوات السيارات والشارع والقرى القريبة وموجات الإذاعات المحلية.
وقبل ان تطير روح المكان الى السماء بثوان، ذابت التماثيل وألقت على طاولة المأذون بطاقات هوية ووكالات من محامي زيارات السجون وشهادات ميلاد ورفعت انا وصديقي ناصر الطاهر أصابعنا في الهواء وقلنا: جاهزون للتوقيع والبصم ان أردت. فعاد المأذون المذهول الذي تمر عليه الحالة لأول مرة ولن تمر أيضا حتى يتقاعد، وكتب العقد بسرعة قياسية ووقف يبارك لنا بالقول: الله يفك أسرهم. ونزلنا عن درج المحكمة وخلفنا سمعنا كثيرين يرددون بأصوات تتصاعد: الله يفك أسرهم.
لم يكن هناك أي عقل او منطق يستوعب القصة، وبدا والد نزار، الكاتب والأديب والمحاضر الجامعي د. سمير التميمي بطلا تائها في رواية لاتينية مترجمة. وعندما صعدنا إلى السيارة عائدين إلى رام الله، لم يوفر صديقي ناصر الحادثة وكسر صمتنا وذهولنا بالقول: «عمي أبو نزار شو رأيك نشحد من طلاب الجامعة رصاص ام 16 ونوزعه بدل الشكولاتة!!».
ضحكنا قسرا وواصلنا عودتنا إلى يومنا العادي كأن الذي وقعناه في المحكمة مجرد فكرة شاعر رومانسي حاد أو حلم يقظة لأسير فلسطيني بسيط في احد السجون. وفي المكتب الذي كان يجمعنا نحن الثلاثة د. سمير وناصر وأنا، فقد تلقينا عقوبات صارمة من د. سمير طوال اليوم ولم تعجبه لا «أفلامي» الصحفية ولا «طلعات» ناصر الإدارية، إلى أن استسلم وانسحب إلى كرسي أكلته الشمس على الشرفة وظل يسمع ويسكت إلى آخر الدوام.
حدث ذلك في العام 2005، والآن ونحن في العام 2012 فان نسخة العقد الذي وقعناه في المحكمة قد تحررت من حلم السجين أو من قصيدة الشاعر الحاد الى فضاء الحرية المتاح هنا، وخارج فلسطين المحتلة، فقد وصل المحرر نزار التميمي قبل أيام إلى عمان والتحق بالمحررة أحلام التميمي، وهم يجهزون الآن لحجز القاعة وشراء الأساور والخواتم وسرير الطفل الأول.
د. سمير، يا طفلنا وقلبنا الكبير الذي أصررت على تجديده في مستشفى رام الله الحكومي، خفف من الصراخ على أبنائك وبناتك وأحفادك في قاعة العرس. ودع قلبك الجديد يفرح هذه المرة. وتذكر انك لن تشتري بدلة رياضة وتبعثها في حافلات الصليب الأحمر الذاهبة لزيارة السجن، بل ستشتري خاتم العريس وإسوارة العروس وسرير الطفل الأول.
Saleh_masharqa@yahoo.com