حسابات باراك..- محمد السهلي
مع تشكيل حكومته في العام 2009، أراد بنيامين نتنياهو أن يقلع بها كحكومة نشأت لتبقى حتى نهاية ولايتها المفترضة، ويقطع بذلك مع مسلسل حكومات «العمر القصير» الذي دشنته حكومته الأولى في العام 1996 وانتهت بانتخابات مبكرة.
ووجد رئيس الوزراء الإسرائيلي في كل من ليبرمان وباراك ركيزتين ساعدتاه على تثبيت استقرار الائتلاف الحكومي وهو ما مكنه لأن يتفرغ لإعادة ترتيب أوضاع حزبه «الليكود» وتجديد انتخابه زعيما «مطلقا» للحزب.
ومع ذلك، حافظ نتنياهو على حذره من أن يتقدم أي من المذكورين السابقين إلى مواقع تمكن أي منهما من منافسته على تصدر المشهد السياسي والحزبي في إسرائيل، في وقت كان فيه إيهود باراك يسعى لأن يظهر نفسه كصمام أمان للحكومة في ظل منافسة خفية مع ليبرمان الذي لم يأل جهدا في محاولة تقديم نفسه الرجل الثاني في الحكومة والمؤهل لأن يكون رئيس الوزراء القادم لإسرائيل.
ربما يكون ما سبق أحد الأسباب التي دفعت بإيهود باراك (2010) ـ وكان ما يزال على رأس «العمل»ـ لأن يتحمس للرأي الأميركي القائل بضرورة «تعديل» الائتلاف الحكومي بإدخال حزب «كاديما» ورئيسته ليفني إلى الحكومة وإخراج حزب ليبرمان «إسرائيل بيتنا» ومعه «شاس». وفي حسابات باراك، يمكنه هذا الوضع من لعب دور «بيضة القبان» مع كل من الجانبين على حد سواء، مستفيدا من علاقاته الجيدة مع إدارة أوباما، وكرجل عسكري مزمن في الحكومات الإسرائيلية التي توالت مؤخرا على الحكم في إسرائيل، وإتصاله من موقع الصلاحية المباشرة كوزير للدفاع مع ملف الاستيطان بكل ما يحمله هذا الملف من أهمية في السياسة الإسرائيلية وفي فرص المرشحين للفوز في أية انتخابات عامة.
إضافة إلى ذلك، كان باراك ينظر باطمئنان إلى توتر العلاقة ما بين ليبرمان كوزير للخارجية مع نتنياهو الذي تجاوز في محطات رئيسية صلاحيات ليبرمان وهمش دوره مستغلا تداعيات «أزمة الأريكة» التي وقعت بين مدير عام الوزارة والسفير التركي. وضمن هذا الجو السائد كان باراك يرى بأن التطورات اللاحقة ستصب حتما في صالحه.
لكن الذي حدث أن نتنياهو استطاع تجاوز التجاذبات مع واشنطن بشأن تجميد الاستيطان، وتراجعت بل انتهت المحاولات لإدخال حزب كاديما إلى الائتلاف الحكومي. وفي الوقت نفسه تمت تسوية معظم الخلافات بين رئيس الوزراء ووزير خارجيته في سياق التجاذبات مع واشنطن. وبهذه النتيجة وجد باراك نفسه في موقع ضعف أمام نتنياهو وليبرمان في وقت واحد.
من المعروف أن إيهود باراك يعتبر من أكثر الشخصيات السياسية في إسرائيل قدرة على «مسايرة» الوضع القائم من أجل ضمان موقعه الشخصي ولو كانت النتيجة على حساب الحزب الذي يترأسه وهو ما حصل.
فقد استثمر باراك الاحتجاجات التي عبرت عنها قيادات حزب العمل ومعظم كتلته البرلمانية على سياسات نتنياهو؛ وكان التصويت على قانون الجنسية الشعرة التي قصمت ظهر البعير بين الحزب ورئيس الوزراء. فدخل باراك على خط الأزمة في غرفة عمليات مشتركة مع نتنياهو عارضا خدماته لتعزيز الائتلاف الحكومي، فقام بالانشقاق عن «العمل» وأخرج معه أربعة من نوابه في الكنسيت (بداية العام الماضي)، مما خفف من تأثير خروج الحزب من الائتلاف الحكومي. وبذلك استعاد باراك «حظوته» لدى رئيس الوزراء وضمن ولو إلى حين بقاءه وزيرا للدفاع وعضوا مؤثرا في الحكومة.
إلى جانب ذلك، عمل إيهود باراك قبل هذه الخطوة وبعدها كبلدوزر سياسي يشق الطريق أمام سياسات نتنياهو في عواصم مختلفة من العالم، وساهم في «تليين» حدة الانتقادات الأميركية الموجهة لرئيس الوزراء بشأن ملف الاستيطان ورفض تجميده.
منذ بداية العام الجاري، تصاعد الحديث في الأوساط الحزبية والسياسية الإسرائيلية عن احتمال إجراء انتخابات مبكرة. ومع اقتراب موعد افتتاح الدورة الصيفية في الكنيست بات الأمر شبه مؤكد، وهذا يعني بالنسبة لنتنياهو على الأقل موسم مواجهات بين أطراف الائتلاف حول ملفات كثيرة سيجري تداولها في اجتماعات الكنيست، على رأسها القانون البديل عن «قانون طال» الذي أوقفت المحكمة العليا الإسرائيلية العمل به قبل أشهر، وأيضا هناك مسألة إقرار الموازنة السنوية للعام 2013 وما يحمله مشروعها من تخفيضات في الانفاق الحكومي سيطال عددا واسعا من الوزارات يتولى بعضها وزراء من أحزاب الائتلاف من غير الليكود. عندها أطلق نتنياهو تصريحه الشهير الذي أكد في ذلك الوقت أن الانتخابات المبكرة واقعة لا محالة.
هنا، وجد باراك نفسه مجددا في وضع صعب. فهو من غير حزب «معتبر» يستند إليه في خوض الانتخابات، وعلت الانتقادات من قيادات في الليكود مع تسرب أنباء عن نية نتنياهو وضع باراك في موقع متقدم على لائحة الحزب التي ستقدم في الانتخابات. وكان هذا مؤشرا لاحتدام صراع ربما يكون ضحيته إيهود باراك باعتباره الحلقة الأضعف في هذا الصراع.
ثم جاءت المفاجأة عند الإعلان عن الصفقة بين نتنياهو وموفاز الذي أصبح زعيما لكاديما بعد إقصاء ليفني في الانتخابات الداخلية في الحزب. وبدخول كاديما إلى الائتلاف الحكومي وجد باراك أمامه منافسا قويا، على رأس حزب بـ 28 مقعدا في الكنيست وهو أيضا وزير دفاع سابق وصاحب خطة تسوية سياسية مع الجانب الفلسطيني مما جعله يأخذ موقعا متقدما في المشهد السياسي الرسمي.
بالتأكيد لن يستطيع باراك«صناعة» حزب جديد وهو الشهير بتدمير «العمل» الذي تولى قيادته في العام 1999 وهبط به تحت الثلاثين مقعدا في انتخابات ذلك العام، واستمر به إلى أن وصل 13 مقعدا ثم قام بشقه أخيرا.
ولم يعد العسكري الوحيد في الائتلاف الحكومي بعد دخول موفاز إلى الحكومة. لكن ما يفتقد في هذا المتعرك هو محاولة مجاراة نتنياهو الذي لديه خطته السياسية (الرخاء الاقتصادي مقابل السلام) ولدى موفاز خطته التي أعلن عنها سابقا في قيام دولة فلسطينية بحدود مؤقتة على 60% من الضفة الفلسطينية، ولم يكن أمام باراك سوى «استعارة» خطة أرئيل شارون التي أعلنها في العام 2005 (الانطواء) وجوهرها الانسحاب من بعض الأراضي الفلسطينية المحتلة دون تسوية سياسية مع الجانب الفلسطيني. ومع أن هذه الخطة ثبت فشلها لدى الإسرائيليين قبل أي أحد آخر، إلا أن باراك أراد أن يدلو بدلوه في هذا الموضع.. ولو كان محتوى هذا الدلو لا يمت لصاحب الاقتراح المتجدد بصلة.. إنه باراك ليس إلا.