أنّاتٌ وطفولةٌ مسلوبة في قرى النسيان - حمزة الحطاب
تجلس غادة العواودة القرفصاء متوسطة ابنيها الصغيرين، ومشرفة على سريرٍ حديدي صغير ومتهالك، ارتفع بضع سنتيمترات عن الأرض، ترقد فيه ابنتها التي لا يتجاوز عمرها الشهرين. بيمناها تهزّ غادة السرير وباليد الأخرى تحوْل ما استطاعت بين وهج الشمس الحارق وبين وجه ابنتها المسجاة بجانب أكوام من الركام في العراء، فحتى الخيمة التي كانت تأوي إليها العائلة سوّتها آليات الاحتلال الإسرائيلي بالأرض.
وبطريقة أقرب إلى الروايات البوليسية، تروي غادة كيف تمكنت في اللحظات الأخيرة من انتشال ابنتها من خيمتهم التي هدمت للتوّ، وتقول: "طفلتي صغيرة عمرها أقل من شهرين، كانت الجرافة ستهدم الخيمة عليها لولا تمكنت من تخليصها وإخراجها من داخل الخيمة، لم يسمحوا لنا بإخراج شيء من خيامنا التي هي منازلنا، حتى الخراف والأغنام بأعجوبة غادرت البركسات. هدموا لنا بركسين للأغنام وثلاث منازل كنت أسكنها وامرأة زوجي ووالدته، لقد غدت أثراً بعد عين. ضربوا والدة زوجي التي يتجاوز عمرها 70 عاماً وألقوها على الأرض، وبقيت لأكثر من ساعتين وهي غائبة عن الوعي، ضربوها باستمرار على بطنها، وهي التي سبقتهم بوجودها في هذه المنطقة، فهي كما كانت تقول لنا ولدت هنا".
في قرى شرق يطا جنوب الخليل، خيامٌ استقرت على الأرض، تعلوها حجارة وأعمدة من حديد وخشب، وفرش منزلي من أغطية ومساند توارت بالتراب، وأدوات طبخ تناثرت تحت الركام، وأطفال صغار افترشوا الأرض بجانب ما تبقى من معالم خيامهم التي اعتادت آليات الاحتلال الإسرائيلي هدمها بين فترة وأخرى.
أحوال السكان متشابهة ومعاناتهم لم تتوقف منذ اللحظة الأولى التي بدأت فيها إسرائيل بزرع المستوطنات فوق أراضيهم، سارة النواجعة تقطن خربة وادي جحيش منذ نعومة أظفارها وفيها كبرت وترعرعت، بات لمعاناتها فصول وفصول.
تقول سارة: "كل يوم يأتي المستوطنون إلينا، ويقومون بالاعتداء أما على مزروعاتنا ومراعينا أو مواشينا أو نحن البشر، يضعون السم لمواشينا وأغنامنا، يقتلعون أشجارنا ومزروعاتنا، يحضروا أغنامهم ويرعوا مزروعاتنا، يستخدموا الخيول، وآليات الصعود الجبلية والسيارات للوصول إلينا وأذيتنا، هذا الصباح حضرت أكثر من 10 آليات عسكرية وجرافة، هدموا الخيمة المنزل الذي يؤوي عشرة أفراد، لم يسمحوا لنا بإخراج أي شيء من مقتنيات المنزل، ضربوني ومنعوني من إخراج الأمتعة، وقبل هذه المرة ضربوني وكسروا فكي وتعرضت للعديد من الضربات في الوجه، وأسعفوني لمستشفى (سوروكا) الإسرائيلي، مكثت فيه لفترة، لم يسأل عني أحد، أنا في أرضي صامدة ولن أتحرك ولن أتركها مهما ارهبوني ومهما قتلوا وهدموا ودمروا".
إمنيزل، ولتواني، وأديرات، والفخيت، والمفقرة، وبئر العد، وجنبا، وسوسيا، وشعب البطم، وطوبا، ووادي جحيش، وغيرها من القرى التي تحتضن حياة ما يقارب من 25 ألف مواطن، لا ينامون ولا يحلمون في قراهم نتيجة الانتهاكات المتواصلة للمستوطنين والجيش على حد سواء.
يقول زهران أبو قبيطة رئيس بلدية يطا: "حياة أهلنا في السفوح الشرقية، والتي تقع خارج حدود بلدية يطا، صعبة جداً، كونهم يعيشون داخل درجة الخطر 24 ساعة يومياً، وذلك من شر المستوطنين وقوات الاحتلال، وهؤلاء المجرمين يحاولون على الدوام بسط سيطرتهم على جزء جديد من أراضي المواطنين، ويتم قلع الأشجار وتسميم المواشي والاعتداء المباشر على السكان، وذلك لتهويد الأرض ووضع بيوت معدنية جديدة، حتى يشرعن في المستقبل ويصبح مستوطنة قائمة. نحن لا نؤمن ولن نقبل بمستوطنة شرعية أو غير شرعية، هؤلاء حالياً محتلون والمحتل مهما عمل لن يغير من قانونية وأحقية الأرض وشرعيتها لأصحابها الأصليين".
سكان قرى شرق يطا جنوب الخليل ممنوعون من البناء وحفر آبار المياه وتوصيل شبكات الكهرباء، فهم في نسيان مستمر، ومغيبون عن أجندة المؤسسات الداعمة، فلا يكاد يمر يوم دون تسجيل اعتداء جديد ضد سكان هذه القرى.
يبين أبو قبيطة كيف تمرر البلدية بعض الخدمات لسكان هذه القرى بالخفية، ويقول: "نحن كبلدية ممنوعون بشكل كامل من تقديم أي خدمات لهذه القرى، التي يقطن بعض أهاليها الكهوف كقرية (المفقرة) حيث يحرم أهلها من بناء أي شيء حتى لو خيمة. أكثر من جهة زارت المنطقة وأطلعت على الأوضاع تلك القرية، الجميع ممنوعون من العيش فوق الأرض، عليهم العيش داخل الأرض، وهذه تعتبر جريمة في القرن الواحد والعشرين، أن يعيش بشر في كهوف، في منطقة تعتبر بالنسبة للعالم مركز الكون وهي فلسطين".
مشاكل هذه القرى لا تتوقف أمام الانتهاكات ومنع البناء، بل تتعداها لتشمل التعليم والصحة والخدمات الأساسية، فمدرستا قريتي لتواني وسوسيا مهددتان بالهدم، وشق الطرق في سوسيا ممنوعة أيضاً، وفي قرية لتواني العيادة مخطرة بالإزالة، وفي قرية إمنيزل حظرَ استكمال مشروع أسباني لتوليد كهرباء من خلال الخلايا الشمسية، لأن الاحتلال لا يحب أن يرى النور في مناطق يعمرها سكان فلسطينيين، كما يقول زهران أبو قبيطة.
سكان قرى شرق يطا وبالرغم من تجذرهم بالأرض وامتلاكهم للوثائق التي تأكد ملكيتهم لها، إلا أنهم يحاربون، ومع كل صباح يجددون البيعة لنفسهم ولأرضهم بالبقاء والصمود في وجه المستوطنات الإحدى عشرة المحيطة بقراهم.
يقول خليل سلامة النواجعة صاحب أحد البيوت التي هدمت: "هذه الأرض أملكها وورثتها عن الآباء والآباء ورثوها عن الأجداد، وأملك وثيقة إخراج قيد في الأرض حصلت عليها من (الإدارة المدنية)، وأثبتت ملكيتي لها، ومع هذا هدموا منزلي. هم يريدون تشريدنا وإرغامنا على مغادرة المنطقة بالكامل، ومع هذا لن نغادر أرضنا ورزقنا مهما فعلوا".
العيش بسلام، حلم ينشده الجميع في قرى النسيان، أكفهم دائماً باتجاه السماء، وشفاههم تسأل الله أن تمكنهم من العيش، فلا ملجأ لهم غير الله والإصرار على البقاء.