المنكوبون الجدد في "يانون"
عميد شحادة
في الطريق أشار أطفال من قرية عقربا جنوب نابلس بأيديهم إلى جبل يابس ذي وجه أصفر، "هناك قرية يانون".
عند بلوغ ذلك الجبل استيقظ الصمت المكسور فقط بتغريد الطيور، الذي ما لبث أن انقطع بمرور طائرة عسكرية إسرائيلية فجرت بصوتها هدوء المكان، وبسرعة أستأنف الحمام الغناء. لا بشر في الشارع يؤكدون أن مجموعة عشوائية من البيوت القديمة المرسومة بعناية في صفحة الجبل هي ذاتها "يانون".
أتضح فيما بعد أنها كذلك من يافطة مغروسة على يمين الشارع، فوق مضخة مياه قدمها الداعمون الأجانب للقرية التي سكنها قبل تسعين عاما سبعون نسمة، زادوا اليوم عشرة أفراد فقط، بحكم أن "يانون" دقت أوتادها منذ العهد الروماني على شفا حفرة من نار أسمها الأغوار، فاشتعلت.
يصيح راشد فهمي الذي صار بعد دمج القرى عضوا في بلدية عقربا عن قريته يانون، "يجب على من يشاهد النار في بيت جاره أن يهجم ويساعد في إخمادها، لا أن يقف متفرجا لأن النار لم تصله بعد. غدا أو بعد غد ستصله النار وتصل من بعده. وهذه يانون إذ لم يحافظوا عليها، ستشتعل جارتها عقربا أيضا".
يانون قرية فلسطينية عتيقة، سقطت بعد اتفاق أوسلو 1993 في شباك المناطق المصنفة (ج)، تقع على بعد خمسة عشر كيلو مترا إلى الجنوب الشرقي من مدينة نابلس، وفي الخاصرة طعنتها أربع مستوطنات طال نصلها فامتدت حتى كسرت ظهر القرية، وفي ظهرها الجيش الذي حرّم على السكان الأصليين وضع طوبة فوق أخرى، فحزم الناس أحلامهم تاركين خلفهم عام 2002 أول قرية فلسطينية تفرغ بالكامل هربا من إرهاب المستوطنين.
"قتلوا البشر، أغنام قتلوا، حطموا البيوت، وكسروا المعدات الزراعية، والأشجار قطعوها، حرقوا المحاصيل، صادروا الأراضي وسيطروا على كل شيء هنا"، قال راشد فهمي وهو يمسح العرق عن جبينه، محاولا إحصاء اعتداءات الإسرائيليين في قريته.
في واحد من بيوت "يانون" يعيش المتضامن الايرلندي إيميت شيرن، الذي حضر عام 2002 مع برنامج (المرافقة المسكوني)، داعما عودة الناس إلى بيوتهم.
عاد من عاد، والأغلبية ظلت في قرية عقربا المجاورة، فيما أيميت ورفاقه لم يغادروا "يانون" منذ عشر سنوات، فهم يعيشون فيها لمساعدة الناس على البقاء، وتوثيق انتهاكات الجيش والاستيطان.
من أعلى تلة في القرية يتحدث أيميت بصوت عالٍ كي لا يسحب الريح القوي كلماته، "قضية يانون هامة جدا، فهنا يعيش الناس في خطر دائم تحت العنف والإرهاب ومصادرة الأراضي لصالح المستوطنات والجيش الإسرائيلي، الذي يستطيع إعلان أي منطقة كمنطقة عسكرية. لا بد أن يفهم المجتمع الدولي أن الناس هنا يعيشون في ظروف صعبة".
الحاصل في يانون لا يختلف عما حدث في قرى فلسطينية اختفت عن الخارطة عام النكبة، وإن كان أخطر الأخطاء الرحيل؛ فبأي وجه يرجى بقاء أهل القرية إن لم يجدوا حافلة تنقل أطفالهم إلى المدرسة، وإن لم يكن هناك مدرسة أصلاً، وإن لم ترشح الحكومة لهم طبيبا يداوي أوجاعهم؟.
مشط راشد بكفه ذقنه السوداء الموشحة بالشيب، وقال يائسا: "ذهبت إلى وزارة التربية والتعليم في رام الله، ورأيت هناك 23 حافلة في الساحة، وعدوني بواحدة. إلا أنهم وزعوا الحافلات على القرى إلا يانون، بحجة أن القرية غير مدرجة على أجندة مشاريعهم".
صارت "يانون" التي تستلقي على سبعة عشر ألف دونم تقريبا، تملكها خمس عائلات فلسطينية؛ قِبْلة العملاء، يحجون إليها لشراء أراضيها ثم بيعها للمستوطنين، بيد أن أهل البلد تنبهوا لذلك، والأرض التي لا تباع قطعا لا تضيع.
ويؤكد راشد فهمي أن جماعات من داخل الخط الأخضر ومن القدس وأخرى من الخليل، ومجموعة من مصر يحملون الجنسيات المصرية جاءوا لشراء مساحات شاسعة من القرية، ما خلق لديه تخوفا استدعت قيامه بإبلاغ جهازي المخابرات العامة والأمن الوقائي في نابلس، حيث قام الأخير بمنع أي بيع أو مسح للأراضي في "يانون" إلا عن طريق الجهاز ذاته.
تقول حجارة القرية لمن يريد أن يسمع، إن الأبواب مخلوعة، والليالي حبلى لا ندري ماذا تلد، فاحذروا النوم.
في الطريق أشار أطفال من قرية عقربا جنوب نابلس بأيديهم إلى جبل يابس ذي وجه أصفر، "هناك قرية يانون".
عند بلوغ ذلك الجبل استيقظ الصمت المكسور فقط بتغريد الطيور، الذي ما لبث أن انقطع بمرور طائرة عسكرية إسرائيلية فجرت بصوتها هدوء المكان، وبسرعة أستأنف الحمام الغناء. لا بشر في الشارع يؤكدون أن مجموعة عشوائية من البيوت القديمة المرسومة بعناية في صفحة الجبل هي ذاتها "يانون".
أتضح فيما بعد أنها كذلك من يافطة مغروسة على يمين الشارع، فوق مضخة مياه قدمها الداعمون الأجانب للقرية التي سكنها قبل تسعين عاما سبعون نسمة، زادوا اليوم عشرة أفراد فقط، بحكم أن "يانون" دقت أوتادها منذ العهد الروماني على شفا حفرة من نار أسمها الأغوار، فاشتعلت.
يصيح راشد فهمي الذي صار بعد دمج القرى عضوا في بلدية عقربا عن قريته يانون، "يجب على من يشاهد النار في بيت جاره أن يهجم ويساعد في إخمادها، لا أن يقف متفرجا لأن النار لم تصله بعد. غدا أو بعد غد ستصله النار وتصل من بعده. وهذه يانون إذ لم يحافظوا عليها، ستشتعل جارتها عقربا أيضا".
يانون قرية فلسطينية عتيقة، سقطت بعد اتفاق أوسلو 1993 في شباك المناطق المصنفة (ج)، تقع على بعد خمسة عشر كيلو مترا إلى الجنوب الشرقي من مدينة نابلس، وفي الخاصرة طعنتها أربع مستوطنات طال نصلها فامتدت حتى كسرت ظهر القرية، وفي ظهرها الجيش الذي حرّم على السكان الأصليين وضع طوبة فوق أخرى، فحزم الناس أحلامهم تاركين خلفهم عام 2002 أول قرية فلسطينية تفرغ بالكامل هربا من إرهاب المستوطنين.
"قتلوا البشر، أغنام قتلوا، حطموا البيوت، وكسروا المعدات الزراعية، والأشجار قطعوها، حرقوا المحاصيل، صادروا الأراضي وسيطروا على كل شيء هنا"، قال راشد فهمي وهو يمسح العرق عن جبينه، محاولا إحصاء اعتداءات الإسرائيليين في قريته.
في واحد من بيوت "يانون" يعيش المتضامن الايرلندي إيميت شيرن، الذي حضر عام 2002 مع برنامج (المرافقة المسكوني)، داعما عودة الناس إلى بيوتهم.
عاد من عاد، والأغلبية ظلت في قرية عقربا المجاورة، فيما أيميت ورفاقه لم يغادروا "يانون" منذ عشر سنوات، فهم يعيشون فيها لمساعدة الناس على البقاء، وتوثيق انتهاكات الجيش والاستيطان.
من أعلى تلة في القرية يتحدث أيميت بصوت عالٍ كي لا يسحب الريح القوي كلماته، "قضية يانون هامة جدا، فهنا يعيش الناس في خطر دائم تحت العنف والإرهاب ومصادرة الأراضي لصالح المستوطنات والجيش الإسرائيلي، الذي يستطيع إعلان أي منطقة كمنطقة عسكرية. لا بد أن يفهم المجتمع الدولي أن الناس هنا يعيشون في ظروف صعبة".
الحاصل في يانون لا يختلف عما حدث في قرى فلسطينية اختفت عن الخارطة عام النكبة، وإن كان أخطر الأخطاء الرحيل؛ فبأي وجه يرجى بقاء أهل القرية إن لم يجدوا حافلة تنقل أطفالهم إلى المدرسة، وإن لم يكن هناك مدرسة أصلاً، وإن لم ترشح الحكومة لهم طبيبا يداوي أوجاعهم؟.
مشط راشد بكفه ذقنه السوداء الموشحة بالشيب، وقال يائسا: "ذهبت إلى وزارة التربية والتعليم في رام الله، ورأيت هناك 23 حافلة في الساحة، وعدوني بواحدة. إلا أنهم وزعوا الحافلات على القرى إلا يانون، بحجة أن القرية غير مدرجة على أجندة مشاريعهم".
صارت "يانون" التي تستلقي على سبعة عشر ألف دونم تقريبا، تملكها خمس عائلات فلسطينية؛ قِبْلة العملاء، يحجون إليها لشراء أراضيها ثم بيعها للمستوطنين، بيد أن أهل البلد تنبهوا لذلك، والأرض التي لا تباع قطعا لا تضيع.
ويؤكد راشد فهمي أن جماعات من داخل الخط الأخضر ومن القدس وأخرى من الخليل، ومجموعة من مصر يحملون الجنسيات المصرية جاءوا لشراء مساحات شاسعة من القرية، ما خلق لديه تخوفا استدعت قيامه بإبلاغ جهازي المخابرات العامة والأمن الوقائي في نابلس، حيث قام الأخير بمنع أي بيع أو مسح للأراضي في "يانون" إلا عن طريق الجهاز ذاته.
تقول حجارة القرية لمن يريد أن يسمع، إن الأبواب مخلوعة، والليالي حبلى لا ندري ماذا تلد، فاحذروا النوم.